هويدا عزت
ليس كل ما يُؤلم يُقال، فبعض الألم في بيئة العمل يُمارس بصمت، وبعض المعارك تُدار دون كلمات، في عالم المؤسسات لا يواجه الأفراد فقط تحديات تتعلق بالمهام أو الموارد أو الأهداف، بل يواجهون أيضًا اختبارات إنسانية خفية، تتعلق بالنوايا والعلاقات والمواقف الصامتة، هناك لحظات لا يُقاس فيها النجاح بإنجاز مهمة أو تحقيق هدف، بل بالقدرة على التماسك أمام ما لا يُقال، وبالصبر على ما لا يُحتمل.
لقد تعودنا أن ننظر إلى الصبر كقيمة أخلاقية أو فضيلة دينية، لكن في ميدان الإدارة الحديثة، يمكن أن يُعاد تعريفه باعتباره مهارة إستراتيجية، تُمارس بوعي واتزان، وتُسهم في حفظ الذات والمؤسسة على حد سواء؛ فالصبر في الإدارة ليس سكونًا ولا استسلامًا، بل قدرة على التريث، والملاحظة، وضبط الانفعال، حتى لا يتحول الخلاف إلى خسارة، ولا تتحول العواطف إلى قرارات.
في بعض من المؤسسات، قد يتعرض الموظفون لما يمكن تسميته بـ “العنف التنظيمي غير المباشر”؛ ذلك النوع من الإيذاء غير المُعلن الذي لا يُمارس بالكلمات أو الأفعال المباشرة، وقد يصدر هذا العنف من المدير عندما يتعمد تجاهل الموظف أو استبعاده من الفرص والتكليفات المهمة دون مبرر واضح أو تفسير منطقي، مما يزرع شعورًا بالإقصاء وانعدام التقدير، وكأن وجوده أصبح غير مرئي.
وهذا النوع من العنف قد يتخذ صورًا متعددة، بعضها قادم من الأعلى، وبعضها ينشأ بين الزملاء أنفسهم، من خلال نقل صور سلبية أو تشويه السمعة المهنية أو إشاعة الأقاويل؛ بدافع الغيرة أو المنافسة غير الشريفة، فيتحول الصمت إلى أداة ضغط نفسي تقتل الحماس وتضعف الانتماء.
إن أخطر ما في هذا النوع من العنف سواء صدر من إدارة مُتسلطة أو من بيئة زملاء سامة؛ أنه يتسلل بهدوء إلى الوجدان المهني للموظف، فيترك جرحًا صامتًا لا يُرى لكنه يوجع؛ فيخلق بداخله حالة من الانطواء واللامُبالاة، ويُضعف ثقته بنفسه وبالمنظمة التي يعمل فيها. ومع الوقت، يمتد أثره إلى الأداء العام، فتتراجع روح الفريق، ويحل محلها التوجس والصمت الإجباري؛ لتتحول بيئة العمل إلى مساحة مليئة بالتوتر الخفي والاستنزاف النفسي المستمر.
ومع هذا الضغط الصامت، يجد الإنسان نفسه أمام امتحان نفسي عسير؛ إذ يتأرجح بين الرغبة في الحفاظ على كرامته وبين حاجته إلى التمسك باستقراره المهني، وهنا يظهر الصبر كفنّ إداري خفي، لا يُقاس بقدرة الفرد على الاحتمال فحسب، بل بقدرته على التعامل مع الظلم دون أن يتحول المظلوم إلى نسخة من ظالمه، فيحافظ على اتزانه الداخلي رغم العاصفة الخارجية.
الصبر الإداري لا يعني غياب الفعل، بل اختيار الوقت الأنسب للفعل، هو إدارة دقيقة للمشاعر والعلاقات والقرارات؛ فالشخص الصبور لا يغض الطرف عن الأخطاء، لكنه يدرك أن بعض المعارك تُربح بالصمت، وبعض الردود لا تُقال بالكلمات بل بالمواقف، الصبر يمنح الإنسان رؤية أبعد من اللحظة الراهنة، فيرى خلف الضجيج غاية أعمق، وخلف الإقصاء فرصة للنمو الداخلي وإعادة اكتشاف الذات.
ولعل أخطر ما في غياب الصبر هو أن يتحول الموظف إلى أسيرٍ للحظة الغضب؛ فكم من كفاءات أضاعت مسيرتها بسبب ردود أفعال سريعة، وكم من مؤسسات خسرت عقولها لأنها لم تحتمل الاختلاف أو لم تحسن إدارة الخلاف. في المقابل، فإن الموظف الذي يتحلى بالصبر الواعي يحافظ على مكانته دون أن يرفع صوته، ويثبت جدارته دون أن يسعى لإثباتها بالكلام.
الصبر هنا لا يُقاس بالزمن، بل بنوعية الوعي، هو أحد مهارات القيادة الذاتية التي تمكن الإنسان من توجيه ذاته وسط الضغوط والتقلبات في عالم مليء بالتحديات والمنافسة، يصبح الصبر درعًا يحمي الإنسان من الانكسار الداخلي، ويجعله أكثر قدرة على الاستمرار بثبات واتزان.
إن الصبر الإداري ليس ضعفًا، بل وعيًا متقدمًا بأن كل موقف مؤقت، وكل سلطة زائلة، وكل ظلم له عمر قصير، هو إعلان هادئ بأن الإنسان أقوى حين لا يسمح للآخرين بتحديد مزاجه أو قيمته؛ فالعاقل لا يرد الإساءة بإساءة، بل يردها برقي يحفظ توازنه ويكشف نضجه.
في الإدارة الحديثة، يُعد الصبر أحد المكونات الجوهرية للذكاء الانفعالي والمرونة النفسية، وهما من أهم مقومات نجاح الإنسان في بيئة العمل، إذ يُمكنان الفرد من إدارة ذاته بوعي، والتعامل مع الضغوط والتحديات دون أن يفقد اتزانه أو دافعيته.
وقد أشارت أبحاث علم النفس التنظيمي إلى العلاقة الوثيقة بين ضبط الانفعال ومؤشرات الصحة المهنية والأداء؛ فقد أظهرت دراسة ميدانية نُشرت عام 2023 في مجلة Frontiers in Psychology ، بعنوان “الصبر وعلاقته بقدرة الأفراد على تحمّل الضغوط المهنية خلال جائحة كوفيد-19″، أن الأشخاص الأكثر صبرًا كانوا أكثر قدرة على تحمّل ضغوط العمل وأقل عرضة للإصابة بالاحتراق النفسي، وتشير نتائج الدراسة إلى أن الصبر ليس مجرد سمة أخلاقية أو فضيلة شخصية، بل هو مورد نفسي وتنظيمي مهم يساعد الأفراد على التكيف مع بيئات العمل الصعبة، والحفاظ على توازنهم المهني رغم ما يواجهونه من تحديات وضغوط.
وفي ختام التجربة، يتجلّى نضج الإنسان في قدرته على الصمت الواعي أمام الضجيج، وعلى الثبات في قلب الإقصاء؛ فالصبر في الإدارة ليس مجرد احتمالٍ للضغوط والألم، بل هو ذكاء نفسي ومهارة إنسانية تحفظ للمرء احترامه، وتمكنه من تحويل الألم إلى بصيرة، والإقصاء إلى دافعٍ للنضج والنهوض من جديد.
ولعل أعظم انتصار يمكن أن يحققه الإنسان في مسيرته المهنية هو أن يخرج من التجارب الصعبة أنقى مما دخلها، وأن يظل محتفظًا بإيمانه بأن العمل قيمة، لا ساحة صراع؛ فالصبر في جوهره ليس انتظارًا سلبيًا، بل اختيار إيجابي للبقاء راقيًا رغم الفوضى.

