نبيل السهلي
يلحظ المتابع لتحولات المشهد الأوروبي تفاقم العنصرية في القارة العجوز، وتالياً تصاعد النزعة الشعبوية والقومية لدى أحزاب اليمين التي رفعت شعارات العداء للإسلام واللاجئين لكسب شرائح شعبية أوسع والصعود بعد ذلك إلى السلطة . ولهذا تجري محادثات بين زعماء أوروبيين ، بشأن تأسيس مخيم لطالبي اللجوء المرفوضين في دول بالقارة الأوروبية ،ولكن خارج دول الاتحاد الأوروبي،وثمة سعي حثيث لطرح مشروع أولي يمهد الطريق أمام نظام أوروبي جديد للجوء يتضمن سيطرة أكبر مما يوفره النظام الراهن. وتزامنت تلك التصريحات العنصرية مع نفحات عنصرية أخرى ضد اللاجئين من قبل قادة أحزاب يمينية في بعض دول الاتحاد الأوروبي ، ودعا بعضهم إلى ترحيل اللاجئين وإسكانهم في مخيمات مغلقة وبائسة في البوسنة والهرسك على سبيل المثال لا الحصر. وتعتبر تلك التصريحات عنصرية بامتياز، رغم الحديث المتكرر عن محاولات ترسيخ العدالة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات الأوروبية .
واللافت أن الأصوات العنصرية برزت بعد استقبال دول الاتحاد الأوروبي مئات آلاف اللاجئين الفارّين من مناطق النزاعات والحروب في المنطقة العربية، بحثاً عن الأمان والاستقرار، وقد تكشفت الحاجة الملحّة لوجود دمٍ جديدٍ، يخفّف الفجوة الديمغرافية في الدول الأوروبية ، ويملأ فراغات سوق العمل في المستقبل . وقد استقبلت أوروبا في السنوات السبع الماضية سيل من اللاجئين غالبيتهم من سورية . واللافت أن الحكومات الأوروبية تسعى، وبخطط مدروسة، إلى إعادة تأهيل اللاجئين، بغية استيعابهم. ويؤكد باحثون في الاقتصاد والديموغرافيا أن اللاجئين الجدد باتوا ضرورةً ملحةً لمستقبل دول الاتحاد الأوروبي ،ولهذا، دعا حلفاء المستشارة أنجيلا ميركل في الحكومة من الحزب الاشتراكي – الديمقراطي ،إلى أن تسهّل وصول اللاجئين إلى سوق العمل، وتجعل ألمانيا بلداً مفتوحاً رسمياً أمام الهجرة، لكن محافظين عديدين يرفضون أو يريدون، على العكس من ذلك ، فرض رقابة أشد على الهجرة إلى ألمانيا.
وتستند حاجة دول الاتحاد الأوروبي إلى دم جديد من جيل الشباب، أساساً، إلى وقائع ديموغرافية واقتصادية، حيث سيتراجع مجموع سكان تلك الدول بحلول عام 2030، بسبب تراجع معدلات الخصوبة بين النساء، واحتمالات ارتفاع نسبة كبار السن من عمر 65 عاماً فأكثر، لتصل إلى أكثر من (30) في المائة خلال العام المذكور، الأمر الذي سيؤدي إلى تراجع مجموع قوة العمل بشكل عام، وارتفاع معدلات الإعالة للعامل في دول الاتحاد الأوروبي. وثمّة قلق داهم بين الباحثين والاستراتيجيين في دول الاتحاد الأوروبي، نظراً إلى احتمالات تقلص النشاط الاقتصادي في العقدين المقبلين، بسب التراجع في أعداد قوة العمل المعروضة في أسواق العمل، والطلب المتزايد عليها في الوقت نفسه.
ولهذا سارعت بعض حكومات دول الاتحاد الأوروبي ،بمؤسساتها المختلفة، إلى وضع مخططاتٍ للحد من الانعكاسات الديموغرافية المحتملة على مستقبل اقتصادياتها، ومستوى المعيشة للفرد والأسرة الذي يعتبر نموذجاً في القارة الأوروبية، وفق تقارير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الصادر خلال العام الحالي 2018. حيث تبوأت بعض دول الاتحاد كألمانيا والدول الاسكندنافية مراتب متقدمة في التقرير المذكور، نظراً لتحقيقها معدلات تنمية بشرية مرتفعة، تُقاس، غالباً، بمؤشراتٍ ذات دلالة، منها معدلات العمر المتوقع للفرد، ودخل الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ناهيك عن نسب التعليم ومساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي والسياسي.
رغم رفع شعارات عنصرية ضد اللاجئين تسعى الحكومات الأوربية التي استقبلت آلاف من اللاجئين العرب إلى الاستفادة من الطاقات البشرية بينهم ، عبر إعادة تأهيلهم وتشغيلهم في الاقتصاديات الأوروبية والارتقاء في مؤشرات التنمية في ظل شيخوخة ديموغرافية أوروبية زاحفة أصلاً ،والحاجة الملحة لعدد كبير من العمال ، إذ ستواجه دول الاتحاد الأوروبي تراجعاً في عدد العمال المؤهلين لاستيعابهم في أسواق العمل ، بحلول عام 2030 . وعلى الرغم من بروز أصواتٍ عنصرية عديدةٍ في أوروبا ، دعت إلى وقف سيل اللاجئين ولفظهم من المجتمعات وجعلهم هامشيين، أكد اقتصاديون في بعض الدول الأوروبية وخاصة المانيا ومؤسسات ألمانية مرموقة إن مساهمة اللاجئين ستكون أساسية وجوهرية في سوق العمل لأول اقتصاد في أوروبا الذي يفتقر إلى اليد العاملة.
ويبقى القول أنه على الرغم من التحليلات السياسية التي ركّزت على البعد الإنساني لاستقبال أوروبا لآلاف اللاجئين من بعض الدول العربية ،الفارّين من الحروب البشعة ، فإن هناك حاجة أوروبية ماسّة لهم، في ظل الشيخوخة الزاحفة ، والتي ستكون لها انعكاسات خطيرة على اتجاهات تطور الاقتصاديات الأوروبية وخاصة أسواق العمل والقوى العاملة المعروضة .وقد عزّز التوجه المذكور اعتراف أكثر من مؤسسة أوروبية بأن آلاف اللاجئين يتمتعون بقدراتٍ مهنيةٍ وأكاديميةٍ وفنية عالية، وسيساهمون في سد الفجوة في سوق العمل في دول الاتحاد الأوروبي التي استحوذت على عدد من اللاجئين خلال السنوات الأخيرة ، ولهذا تعتبر المخاوف من قضية وجود اللاجئين في تلك الدول مصطنعة وغير واقعية ، ومجرد شعارات عنصرية شعبوية لتعبئة الشارع الأوروبي وكسب صوت الناخب في المستقبل.