فيتزجيرالد الفوضوي الحالم مثال الجيل الأميركي الضائع

1

الروائي المتناقض المنتصر والمهزوم صاغ مصطلح عصر الجاز

سناء عبد العزيز

الروائي الأميركي الكبير فيتزجرالد (غيتي)

على رغم وفرة الألغاز المجدولة في نسيج الكون، ظل الإنسان للغموض، هو الأكثر إلغازاً وتعقيداً وربما غموضاً سواء بالنسبة إلى نفسه أو سواه. ولم تفده معرفة تناقضاته وتنصته الدائم إلى جلبة العراك داخله، في التوصل إلى أي حيلة لمواجهتها، فسمح لوجوهه المختلفة بحرية الظهور، كلما صادفت ظروفاً مواتية لتمثله بصفته وشخصه. مثل هذا المأزق ندركه أحياناً في أنفسنا ولكنه يكتسب بريقاً غامضاً ومثيراً في الشخصيات العامة، لا سيما المبدعين منهم، بتعدد أطيافهم وتقلبات أمزجتهم الأشد تعقيداً وتطرفاً. فهل نتوقع من كتاب سيرهم الذاتية النجاح في تشذيب حيوات لم تخضع للمنطق يوماً، داخل نسق منطقي؟!

الفوضوي الحالم بالنظام

في كتابه “شيء من الفوضى لم يكتمل: حيوات ف. سكوت فيتزجيرالد”، الصادر حديثاً عن منشورات جامعة فيرجينيا، يستشهد آرثر كريستال بنصيحة للناقد ليتون ستراشي لكاتب السيرة البارع، قال فيها: “ينبغي على الكاتب مهاجمة موضوعه في أماكن غير متوقعة؛ فيسقط على الخاصرة أو على المؤخرة، بدلاً من السرد المباشر الدقيق. وسوف يباغته ضوء مصباح قوي ينير الخبايا الغامضة، التي لم يطلها النور بعد”.

بهذا الاقتباس يمهد كريستال لنهجه الجديد في تناوله موضوعاً استهلكه المؤرخون بحثاً حتى امتلأت الرفوف بالعديد من حيوات فيتزجيرالد الذي تصادف ذكرى ميلاده هذا الشهر من العام، وهذا بالضبط ما ينبهنا إليه العنوان؛ “حيوات” وليست مجرد حياة واحدة. بالتالي لا نتوقع من الكاتب أن يمضي في طريق مألوف للوصول إلى حقائق تحمل شيئاً من اليقين، وجل ما يتمناه القارئ أن يقبض على نقاط التماس والتقاطع وربما التداخل بين هذه الحيوات المتعددة.

41W2YEXZ3GL._AC_UF1000,1000_QL80_.jpg

كتاب السيرة الجديدة (أمازون)

في المقدمة المعنونة بـ “ملاحظات حول مخاطر السيرة الذاتية”، يراجع كريستال أكوام السير المكتوبة عن فيتزجيرالد ليخرج لنا بملاحظة مؤسفة، هي عدم التفات مؤلفيها إلى “المشكلة التي يعاني منها فيتزجيرالد”. إن مشكلة الرجل الذي صاغ مصطلح عصر الجاز، وكان خير مثال على “الجيل الضائع”، تتلخص في نصيبه العظيم من التناقضات، في القرن الصاخب الذي عاش فيه. وما اختلف الناس حول فيتزجيرالد إلا لأنه غالباً ما كان يختلف مع نفسه؛ فتارة يكون الفنان العبقري الطامح إلى الأعالي مع جيمس جويس وجوزيف كونراد، وتارة تشده الأرض، فيهبط من كمال السرد إلى عالم كتابة السيناريو بمواصفات هوليوود. لقد كان فيتزجيرالد مطوقاً تماماً بالتناقضات، نصف منتصر ونصف مهزوم، رمز الرومانسية في عصره، والمدمن الفظ الذي تردد ثماني مرات على المصحات للتعافي من الكحول. إنه باختصار “الأخوة كارامازوف في وقت واحد” كما قال أستاذه كريستيان غاوس، و”الفوضوي الحالم بالنظام”، على حد توصيف الشاعر والناقد الأميركي جون أبدايك.

هكذا تمتد قائمة تناقضات فيتزجيرالد لتشمل كل حياته القصيرة على نحو لم يواجهه كتاب السيرة من قبل. وربما لهذا سعت كل واحدة منها إلى التركيز على بعد واحد من أبعاد شخصيته، وهو ما يصفه كريستال بنوع من التحيز لإحدى شخصياته على حساب الأخريات، والتي لا تقتصر تبعاته على فيتزجيرالد فحسب، بل تمتد لتضع كل السير الذاتية في منطقة الارتياب والشك. أليس هذا ما اعترف به فيتزجيرالد نفسه حين قال: “لم يكن هناك أبداً سيرة ذاتية جيدة لروائي جيد. ولا يمكن أن تكون. إذا كان جيداً بالفعل فهو بالضرورة عدة أشخاص”.

أرض الخوف

يذهب كريستال إلى أن حياة الإنسان لا يمكن استنفادها مهما بلغ عدد السير المكتوبة عنه، فهي تخضع للمراجعة المستمرة كما يتضح من أثر التصحيح التراكمي في سير فيتزجيرالد. وفي سعيه إلى تحريره من كتاب سيرته الذين إما بالغوا في مدحه، أو في قدحه، يتخذ من هذه الدراسات المعيبة منطلقاً لفرضيته، فيقترح مثلاً حذف “الأجزاء البغيضة” من دراسة جيفري مايرز عام 1994، التي ركزت على الجانب السلبي من شخصية فيتزجيرالد وأضفت عليه طابعاً أنثوياً، وعكست مخاوفه الجنسية. إنه التحيز الذي اتهم به كتاب السير في الانتصار لشخصية على حساب أخرى. ومايرز في رأي كريستال، فضل إبراز الجانب الشرير غير الناضج من فيتزجيرالد وتغييب الآخر الودود المخلص المراعي للآخرين. هذا على عكس ما فعله ليونيل تريلينج تماماً بانحيازه إلى الجانب البطولي انحيازاً مطلقاً. لكن فيتزجيرالد لم يكن هذا ولا ذاك تماماً، إنه مجرد شاب لم يستطع قمع الجوانب المختلفة لشخصيته، وبدلاً من محاولة فهمه بالاستقرار عند أحد شخوصه، يعتقد كريستال أن الأساس الشرعي الوحيد للعمل الإبداعي يكمن في جرأة الاعتراف بجميع التناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها، والتي تجعل حياتنا غامضة للغاية ومرهقة للغاية ورائعة للغاية. وفيتزجيرالد لم يكن سوى فوضى من “التناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها” وتجاهل ذلك يعني المخاطرة بعدم رؤيته على الإطلاق.

gallery-1496321734-gettyimages-535781977.jpg

مع حبيتبه زيلدا التي أصبحت زوجته (غيتي)

يتألف الكتاب من خمسة فصول تتبع في تقسيمها بنية ثلاثية تحت عناوين واحدة: حقائق الأمور، انطباعات (أولى وثانية وأخيرة)، أميركا فيتزجيرالد (1، 2، 3). والهدف تقديم صورة متطورة، تتكون من “طبقات من الانطباعات التي لا تتمكن أبداً من الاستقرار”، وهي طريقة في كتابة السيرة تجعل من القارئ شريكاً في إنتاج النص باستخدام عبارات مثل: “لأسباب لا يمكن للمرء إلا أن يخمنها”، أو “يميل المرء إلى التفكير في”، أو “يمكنك، إذا أردت، أن ترى بالفعل المأساة تتشكل”.

تتوزع “حقائق الأمور” على ثلاث فترات، تغطي الأولى سنوات طفولته ومراهقته وشبابه حتى سن الـ24، بينما تقتصر في الفصلين الآخرين على عقد واحد من الزمان حتى لحظة وفاته في عام 1940 بنوبة قلبية في سن الـ44. على رغم أنه ولد في سانت بول، مينيسوتا، نشأ فيتزجيرالد في نيويورك طفلاً موهوباً يراوده حلم أن يصبح كاتباً مشهوراً حين يكبر، وقد عاشه بكل كيانه واستسلم للمغامرة حتى فصل من جامعة برينستون بعد قصة حب فاشلة، وانضم إلى الجيش الأميركي في ألاباما. وهناك قابل زيلدا أشهر فتاة في بلدها وأكثرهن جموحاً، ولكن كيف السبيل إليها؟ لقد كانت زيلدا ذات الثامنة عشرة فتاة مرغوبة من شباب أفضل منه كثيراً، وكان طبيعياً أن ترفضه. من هنا سعى إلى تحقيق الحلم الأميركي والدخول بقدميه إلى أرض الخوف.

سقوط الحلم الأميركي

يتلخص الحلم الأميركي في الاعتقاد بأن أي شخص، بغض النظر عن طبقته، بوسعه تحقيق الثراء والشهرة إذا وضع هدفاً نصب عينيه وسعى إليه بجد وتصميم. خلال هذه الحقبة كان الناس إما أغنياء أو يحلمون بثروة كبيرة. أثبت الحلم مدى صدقه حين عكف الشاب الغارق حتى أذنيه في الحب، على كتابة روايته الأولى “هذا الجانب من الجنة” (1920) فانفتحت أمامه الطرق على اتساعها، والأهم ذراعا زيلدا، مرحبة بالزواج منه.

لكن كريستال لا يقدم الحياة المضطربة وغير المستقرة لأيقونة ثقافية فحسب، بل يربطها بالاجتياح الفكري في فترة من التاريخ صنعت أميركا الحديثة. إنها العشرينيات الصاخبة، وعصر الجاز بإيقاعاته الحزينة المضطربة، والجيل الضائع الذي اختبر شناعة الموت في الحرب وعاد ذاهلاً، أو بالأحرى هائماً على وجهه يستقطر اللحظة الحاضرة وينغمس في ملذاتها.

اقرأ المزيد
  • بول أوستر يقتفي آثار الكاتب الطليعي المنسي ستيفن كرين
  • الاميركي فيليب روث روائي ما بعد الحداثة… وفنان السرد الموسوعي

أثرت هذه الأحداث على روايته “غاتسبي العظيم” (1925)، التي تعد الأكثر تمثيلاً لجوهر أميركا، بحيث انقسم بطلها بعد أن بلغ الحلم أو توهم ذلك إلى شخصين، أحدهما متردد يسعى إلى تحقيق حلمه، مع علمه بأن الأشخاص الذين يعتبرهم نماذج للحلم الأميركي ليسوا الأفضل. والآخر قابض بأسنانه على الحلم بعد أن تسلق السلم الاجتماعي وحصل على الثروة، لكنه استخدم وسائل غير قانونية للقيام بذلك. في هذه الرواية التي وصفها النقاد بـ”العمل الأدبي الأميركي الأكثر كمالاً”، اقترب فيتزجيرالد من الوصول إلى مصاف الكتاب الذين حلم بمكانتهم، مبتكراً لغة أصيلة تكاد تقترب من الشعر، فماذا يحدث عادة بعد الاكتمال؟

كتب فيتزجيرالد يقول: “أنا كاتب من الدرجة الأولى ولم ينتج أبداً سوى كتب من الدرجة الثانية”. إن ما تبقى من حياة الرجل كان عبارة عن مجاهدة مريرة للعودة إلى ما حققه هناك. “لقد رأى ما لا يمكنه الحصول عليه وعرف أنه يستطيع كتابته… كان الفشل هو الظل الذي يطارده، لأن أي شيء أقل من الكمال لم يكن وارداً. مع أن “غاتسبي العظيم” لم تحقق له المكاسب المأمولة، وبدأ يعاني مالياً، وأدى الكساد الكبير الذي حدث عام 1929 وحتى أواخر الثلاثينيات، إلى تفاقم معاناته. فانتقل إلى هوليوود، لكتابة السيناريو، وهناك عانى من إدمان الكحول، وتشوش زيلدا، أجمل فتاة في المدينة، الرسامة والراقصة التي تحمل البهجة والنشوة أينما حلت، والتي انتهى بها الأمر نزيلة مصحة عقلية.

من حفلات النخبة إلى درك جحيم الحلم الأميركي، استطاعت أعمال فيتزجيرالد أن تقدم صورة دقيقة وشديدة الوضوح لأميركا في عشرينيات القرن العشرين، وتستكشف في الوقت نفسه أخطار الطموح وتعقيدات العلاقات الإنسانية، وخيبة أمل جيل ما بعد الحرب وتجاوزات عصر الجاز. وهو ما اختار كريستال أن يقدمه لنا في طبقات من الانطباعات لا تقبل الحسم، لنخرج بعد قراءته بيقين واحد، أن لا شيء نعرفه عن فيتزجيرالد، سواء الإنسان أو الفنان، على رغم كل ما قيل وأعيد قوله فيه. فالأمر ببساطة أنه “لا يمكن لأي طبيعة أن تمتد بالكامل داخل أخرى”. وقد نصح فيتزجيرالد نفسه هو الذي كتب قبل موته بأيام قليلة هذه السطور الأخيرة: “كتبك كانت في مكتبك على ما أعتقد، وشيء من الفوضى لم يكتمل في رأسك، ألقت به يد الأقدار العظيمة إلى العدم”.

التعليقات معطلة.