أ.د. محمد الدعمي
ربما كان عقل “أرسطوطاليس” (أو أرسطو) العملاق وراء أولى ملاحظة حقيقة الوجود “التحولية” المتواصلة mutability في تاريخ البشرية، ذلك أننا، بشرا وجزءا من وجود كوني، لا نملك أن نفلت من عجلة حال التحولية والتغير الدائم، أي من حال World of becoming، كما أطلق أرسطو هذا التعبير عليها، بوصفه قانون الوجود.
وإذا كان هذا الفيلسوف الإغريقي العملاق قد اعتمد هذه الملاحظة لما يمكن أن نطلق عليه “سُنَّة الأزل” التي لا يمكن أن تتوقف أو تتغير قط في سياق دراسته لــ”الدراما” Drama، أو “الشعر” إذ كان الإغريق يطلقون هذا العنوان على المسرح، فإن هذه السُّنة الكونية المقاومة للإعاقة أو للتوقف عبر طوفان النوع البشري على تيار الزمن المتواصل الجريان لا بد أن تعبر عن وجودها وتواصل معطياتها الدائمة الآن أكثر من أي وقت مضى: فإذا كان القانون الذي ظفر به أرسطو فطبقه على دراسته “المسرحية”، أي أن المسرحية لا بد أن تعكس هذا القانون، شرطا مسبقا لتكون شعرا رفيعا، أقول لا بد أن تعكس (كمرآة) كل ما يعكسه الوجود من محطات ثلاث، وهي: (1) البداية؛ و(2) الوسط؛ و(3) النهاية. هذه المحطات (برغم قلة عددها) هي ما يجب أن نظفر به، بشرا، في متابعتنا لما يجري اليوم من متغيرات، عاصفة أحيانا وسكونية أو هادئة في أحيان أخرى.
وإذا كان فيروس كورونا قد وضع العالم بأسره على المحك، سوية مع كل ما كان الإنسان يتبختر به ويفخر بإنجازه من تقنيات وعلوم تطبيقية، ليبرهن أن شكل العالم الحالي، الذي غالبا ما كان يوصف بــ”عالم القطب الواحد”، بعد نهاية الحرب الباردة، أي “عالم القطبين”، إنما يقترب (بفعل معطيات التحولية) من تحول أو تغير قد يكون جذريا أو هادئا، هذا هو ما يتوجب علينا (في العالمين العربي والإسلامي) رصده وترقبه بفطنة كافية لنسدل الستار بموجبها على دورنا المتراجع وضعيف الفاعلية في مواكبة مسيرة العصر على سبيل استثمار كل ما نملك لاستعادة ما نتوق لتحقيقه من قوة وقدرة على خدمة أهدافنا المشتركة التي لا بد أن تصب في خدمة الإنسانية جمعاء في نهاية المطاف. للمرء أن يتجنب تكرار ما كان بحدث لنا على قرون وسنوات التراجع والنكوص عندما كانت أبسط الوباءات أو الجوائح والطواعين تقتطع من كينونتنا المجتمعية آلاف الضحايا، ومن إمكانياتنا الاقتصادية ما يمكن أن يضع أقدامنا على أعتاب عصر تفوق وتقدم ورفاه مشرق جديد، لا نباري به العالم المتقدم حسب، ولكن نحاول أن نخدمه، متذكرين أن هذا العالم المترامي لم يعد هو “عالم ابن بطوطة” وأمثاله من الرحالة والمرتحلين القدماء وسواهم من “الجوالين”، خصوصا وأن وسائل النقل الحديثة والحضارة الرقمية قد أحالت عالمنا هذا إلى “قرية كونية” نشترك جميعا في الحفاظ عليها وصيانتها، لأن كل ما يمس بسوانا يمس بنا كذلك، إن مباشرة أو عن طريق أطراف أخرى. هذا هو ما جعل “العلم” محبذا على سواه (كالخرافة والأسطورة) مما يستطيع البشر الإسهام به لخدمة وجوده وحضارته التي لا يمكن لأية دولة أو مجموعة دول في العالم أن تضطلع به وحدها أو أن تدعي تأميمه واحتكاره. ودليل ذلك هو هذه الجائحة التي لقنتنا دروسا لا تقدر بثمن: وهي إلغاء الحدود المصطنعة بين البشر وبين الدول من الصين إلى أميركا، منبهة إيانا (بشرا) بمصالحنا المشتركة وبمعاركنا على جبهة واحدة ضد كل ما يهدد وجودنا وبقاءنا.
إن الارتطام الكوني المهول هنا لم يعد ارتطام كوكب بكوكب ولا جيش بجيش، لأنه ارتطام بين الإنسان وإراداته، من ناحية، وبين قوى الإبادة والموت، تلك القوى الظلامية التي قد تكمن في فيروسات لم تتمكن البشرية من رؤيتها حتى ابتكرت المجهر الإلكتروني قبل بضعة عقود: فالى المزيد من المحبة والتمسك بوشائج النوع الآدمي كالتعاون والتماسك والتضامن والتعايش!