في التعطش إلى ألأنسنة وثقافة المعرفة

1

 
ماجد الشيخ
 
 
سجلت الانتخابات النصفية الأميركية هذا العام، اختراقا بدا غير متوقع، في ظل إدارة شعبوية يمينية متطرفة تعادي الأقليات والملونين؛ بفوز رشيدة طليب وإلهان عمر وغيرهما من أطياف الاقليات، ما يؤكد أهمية الاحتكام إلى قوانين المواطنة ودورها في تنظيم شؤون الناس، على عكس النزعات الأيديولوجية النرجسية والأنانية المعادية للآخر ورفضه واستبعادة بالمطلق، من قبيل قوانين الاستبداد القوموية والرجعية المتخلفة، كـ “قانون القومية” الذي أقره كنيست الكيان الاحتلالي الإسرائيلي مؤخرا، ويراد له أن يؤكد على يهودية “المواطنة الإسرائيلية” على حساب كل “مواطني الدولة” على اختلاف أصولهم وأعراقهم ودياناتهم، وذلك مقدمة لاستبعادهم وإقصائهم مستقبلا عن شؤون التشريع والتمثيل البرلماني، والنطق باسم من انتخبوهم والنيابة عنهم في رفع أصواتهم وبث مطالبهم وشكاواهم، وما يعانونه من غبن القوانين غير العادلة، أو المواقف العنصرية والتمييزية التي تستهدفهم بها قوى اليمين المتطرف، وحتى المؤسسة الكولونيالية الحاكمة.
 
 
هكذا أكدت مجريات الانتخابات النصفية هذا العام، حتى في ظل إدارة يمينية شعبوية متطرفة، على أهمية وضرورة المشاركة الديمقراطية والنزوع المواطني لدى أبناء الأقليات، واستعدادهم وامتلاكهم إمكانيات وقدرة المنافسة، وصولا إلى انتزاع الفوز، وذلك على قاعدة الاندماج القائم على إبراز قيم الإيمان بالحريات العامة، وبضرورة التنوع والتعددية؛ المصونتان بقانون المواطنة الديمقراطية، وبقوانين دستورية تمنع الإقصاء والاستبعاد، وتحض على روح ومنطق المشاركة، وخلق ظروف مواتية، لتحقيق ذوات أرادت أن يكون لها حيثياتها، في مجتمعات أتاحت وتتيح لها فرصا كاملة، وذلك بدون عوائق، والأهم بدون شروط أو مقايضات، أو مساومات؛ على ما درجت الإقدام عليه العديد من أجهزة سلطات بلادنا، كما بلدان الجنوب، التي تنجح في هندسة بيئات موالية تماما للسلطات الحاكمة، وحتى تصنيع “معارضات موالية” تضر بقضايا شعوبها وبمسائل الحريات والنزاهة والعدالة المستلبة والمغتربة، في بلاد أدمنت اغترابا قاسيا عن بيئة عالمنا المعاصر، وأقصيت عن مسائل الحداثة والتنوير، وفي القلب منها قضايا الثقافة والديمقراطية ومنظومة الحكم الرشيد، واحترام الحريات لكل المواطنين الأصلانيين منهم ومن أصبحوا مواطنين على حد سواء، بدون تمييز أنظمة الأبارتهايد والأنظمة الموصومة بالعنصرية والفاشية، كالنازية والصهيونية والأنظمة البدائية وتلك المقادة بسلطات عميقة، حيث يسود فيها حكم “السادة المستبدين”، القائم على امتيازات الجاه والسلطة وملكيات المال والتجارة وعلاقات التبادل الزبائنية، كما أضحت تتبدى اليوم وتعيش تحت ظلالها المعلنة والخفية، عديد من أشكال عولمات شعبوية خانت منطلقات العولمة، وأهدافها التي أريد لها أن تكون مفتاحا لحريات أعلى وتدفقات مالية يجري توزيعها بعدالة أكبر، لا احتكارها والاستحواذ عليها واستخدام منظومات العولمة في ما يضاد أهدافها ومنطلقاتها.
 
وما كان لأوروبا أن تتحول إلى نادي المواطنة الديمقراطية، لولا وقوف مواطنيها ومجتمعاتها وأحزابها في وجه القوانين اللا دستورية الجائرة، التي أنتجتها القومويات العنصرية ذات الطابع النازي أو الفاشي، في عدد من بلدان القارة، التي دفعت أثمانا باهظة لحروب الغرائز المدمرة التي قادتها أنظمة شعبوية متطرفة، عسكرت بلدانها ومجتمعاتها ودفعت بها في معارك طاحنة ضد شعوب وبلدان أخرى.
 
وها هي موجة أخرى من موجات الأنظمة الشعبوية، تتخلق اليوم مع ترامبية أميركية محافظة أكثر يمينية في تطرفها، عمادها التجارة والمال والنخب المافيوية العقارية والعسكرية، وهي بالأصل لا تحسن غير هذا السلوك على حساب السياسة والدبلوماسية وقضايا الإجماع والاجتماع الإنساني الدولي، الغائب الأكبر عن سلوكها العولمي الذي تدعي حداثته ومعاصرته، فيما هو أبعد بعيدا عن سلوك المتحضرين وعقلانية الثقافة التي طورت مجتمعات حداثية ومواطنية؛ السيادة العليا فيها للإنسان وحرياته الفردية والجماعية والمجتمعية.
 
وما كان للأنظمة الشمولية والتسلطية أن ترتقي سلم السلطة، وممارسة استبداد مفعّل ومحمي من دول الشمال الأكثر جورا ضد الجنوب وأهله، لو لم تكن مقودة بالتبعية والاستعباد لخارجها الإقليمي والدولي، والاستبعاد لداخلها المجتمعي والشعبي، حتى غدت العزلة والعديد من أصناف الاغتراب، “سيدة الأحكام” في بلاد تحث الخطى نحو دمار دواخلها وخرابها وتفتيت ُبناها، جرّاء هيمنة محاصصات الطوائف والمذاهب والفئويات والمافيات والنخب، التي اتسعت معها أعداد الفاسدين والناهبين للمال العام، وإخضاع الاقتصادات الوطنية لنخب من أهل السلطة، ليسوا مؤهلين في أي مجال من المجالات لا السياسية ولا الاقتصادية، حيث تترك سياسات واقتصادات البلاد للفاسدين والناهبين يرتعون فيها كما يشاؤون، من دون رقيب أو حسيب، طالما تعمل السلطة على تغطيتهم وتوكيلهم بأعمالها، ومشاركتهم النهب والاعتداء على المال العام، وأموال الخصوص من الناس/المواطنين بلا مواطنة، وبلا حقوق.
 
هكذا نحن هنا مواطنون بلا مواطنة، وقد لا تتحقق لنا شروطها (المواطنة)، إلا إذا هجرنا بلادنا، ويبدو أنه من نتائج تلك الهجرة تحقق زوال اغتراب الكثيرين منا عن إنسانيتهم وعن حريتهم وعن حقوقهم التي يستلبها منهم ومنا أهل سلطات “الأمر الواقع”، وحماتهم الخارجيين والشراكات الزبائنية المحلية، وسطواتهم الأمنية والعسكرية، وهي تؤكد بلطجة غير مسبوقة في تاريخ السلطات المطلقة، المحكومة دائما لخوفها على سلطانها، حتى لم يبق لديها سوى هاجسها المزمن هذا، هاجس سلطان الخوف على مواقعها و”موانعها” ومراتع خيلها، فهل كثير على بعضنا أن يتحقق له ما حرّمته علينا سلطات بلادنا؟.
 
لهذا سوف يبقى شرط المواطنة الديمقراطية المدنية والسياسية، هو الشرط الشارط، والمبدأ المعياري الناظم لحياة المجتمعات والدول، المبدأ الآيل إلى تحقق أنسنة عادلة وحريات مقدسة وواجبة، ومنظومة حقوق يصونها الدستور والقانون في دول/أمم ومجتمعات مدنية حديثة. ومن دون كل هذا سيبقى الناس في مجتمعاتنا مجرد رعايا/غلابا يقهرهم الخوف من مقاربة حقوقهم والمطالبة بها، طالما بقيت تتجاهلها تلك القوانين والدساتير الشكلية لأهل السلطة، ممن يتعمدون على الدوام إقصاء السياسة، ومقاربة الحلول الأمنية والبوليسية، حفاظا واحتفاظا بسلطة لن تدوم إلى الأبد، مهما كابر وناور من يقدسون السلطة درعا وقلعة يعتقدون أنهم بداخلها، يمكن أن يكونوا في مأمن من غضب المظلومين والمقهورين والمضطهدين، أولئك الذين لهم كل الحق بالحرية واحترام إنسانيتهم، وضرورة بل ووجوب امتلاكهم الوعي بثقافة المعرفة وبمبادىء المواطنة.

التعليقات معطلة.