مقالات

في الحدث : المباحثات الأميركية الصينية تعري هشاشة الاقتصاد العالمي

 
 
طارق أشقر
 
ما أن تم الإعلان وبدون تفاصيل عن دخول الولايات المتحدة الأميركية والصين صباح أمس الاثنين في محادثات تجارية تمتد حتى اليوم الثلاثاء بالعاصمة الصينية بكين، إلا وقامت الدنيا ولم تقعد في كل ركن له علاقة بالأنشطة التجارية والاقتصادية على مستوى العالم، لدرجة انتعشت فيها أسواق قطاعية، وارتفعت أسهم أوراق مالية، وزاد الإقبال على سندات متنوعة، حيث علا شأن أسهم قطاعات محددة كالسيارات والتكنولوجيا، والبنوك، وكذلك ارتفعت الأسهم الدولارية في أسواق عالمية، وقفزت مؤشرات مالية بمختلف مسمياتها، بل حتى النفط انتفض هو الآخر وشمر من ساعده مرتفعا إلى الأعلى بكل تصنيفاته خفيفا كان أو ثقيلا … وكل هذا لم يكن لتلك الأسواق والقطاعات حسب متابعيها وخبرائها أي معلومات تفصيلية عن تلك المباحثات قبل انعقادها، بل حتى عن الفندق أو القاعة التي تستضيف فيها بكين تلك المباحثات!
وفي ظل هذا الزخم من الارتفاعات وحالات الانتعاش التي نرجو أن لا تكون آنية ومؤقتة في الأسواق المالية والقطاعية بمختلف أنحاء العالم، تكشف للكثير من الاقتصاديين والمراقبين بأن ما يحدث في العالم منذ أمس الاثنين كاستجابة سريعة لاجتماع يعقده عملاقان اقتصاديان، ما هو إلا حالة من التعري لطبيعة الاقتصاد العالمي تؤكد بوضوح بأنه اقتصاد هش لا تحكمه ضوابط مؤسسية وفق قوانين وأسس ومعايير دولية، كان ينبغي أن يكون دورها ضبط آليات العمل التجاري فيه، دون ترك مقوده إلى الحالات المزاجية لرؤساء الدول أو رؤساء كبريات الشركات التجارية العالمية.
وما يفقع مرارة الاقتصاديين الذين يؤمنون بضرورة منهجية الممارسات التجارية، خصوصا عندما تكون نتاجاتها مؤثرة في مصالح دول العالم الأخرى وشعوبها بالضرورة، هو أن ارتهان حرية الاقتصاد العالمي للأمزجة الفردية كشف عنه ما انفرد به الرئيس الأميركي ترامب مؤخرا من قرار “مجمد” حتى الآن يفرض بموجبه رسوما بقيمة مئتين وخمسين مليار دولار على بعض الواردات الصينية إلى أميركا، فردت بكين بدورها بفرض رسوم جمركية أيضا على واردات أميركية إلى الصين وذلك بأكثر من مئة مليار دولار أميركي، ورغم أن اجتماعا “بين شخصين” هما الرئيسان الأميركي والصيني في العاصمة الأرجنتينية بيونس أيرس الشهر الماضي أدى إلى تجميد تلك القرارات بموجب هدنة مدتها تسعون يوما إلى حين الدخول في مفاوضات أوسع كمفاوضات بكين أمس واليوم، إلا أن ما حدث ويحدث من استجابات سوقية عالمية في جميع أنحاء العالم بما فيها أوروبا وغيرها يؤكد أن الاقتصاد العالمي تحتاج إدارته إلى وقفة حقيقية تعيد تنظيمه.
وعليه، فبقدر ما كشفت هذه الاستجابة العالمية في مجالات التجارة والاقتصاد بمختلف قطاعاتها عن هشاشة نظم التحكم في الاقتصاد العالمي، فهي أيضا أكدت على “تبعية” حقيقية لنفس الاقتصاد لجهة واحدة ألا وهي الولايات المتحدة الأميركية؛ شاء الاقتصاديون أم رفضوا، خصوصا وأن النظام المالي العالمي تمر جميع قنواته عبر نيويورك وواشنطن وأن الكتلة النقدية الدولارية رغم وجود شكوك حول حجمها الحقيقي إلا أنها هي المحرك الحقيقي للتجارة العالمية، وبالتالي ليس مستغربا أن تؤدي أي عطسة لأي من صور الزعماء المرسومة بأي من الفئات الدولارية إلى زعزعة عرش الاقتصاد والتجارة العالمية، ناهيك عن صدور قرار فردي لمن هو في قمة الرئاسة الأميركية، ذلك القرار ذو الصفة “الحمائية” الذي أقام دنيا المال والاقتصاد وما أقعدها حتى الآن.
كما كشفت تلك الاستجابة السريعة للقطاعات المالية والاقتصادية العالمية لخبر انعقاد المفاوضات التجارية الأميركية الصينية أيضا عن وجود حاجة ملحة لتعزيز مكانة منظمة التجارة العالمية علها تقوم بدورها المنوط بها بشكل أفضل لضمان عدم تأثير السياسات الحمائية الفردية على حرية التجارة العالمية، كون الحرية الاقتصادية والتجارية العالمية هي الوحيدة التي يمكنها أن تضمن انسيابية التجارة العالمية بشكل أفضل.
 
من أسرة تحرير الوطن