لعل المتتبع للخطاب السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ يجد فيه مواصفات البنية الخطابية الراقية، المتناغمة مع روح النص، والمتفاعلة مع أبجديات الواقع ومفردات الحياة اليومية للإنسان العماني، المتسامية مع شموخ الهدف الذي تسعى لتحقيقه، والرؤية والرسالة التي تحملها لبني الإنسان ونهضة الأوطان، وبما يضمن مسارات احتواء واضحة، ومفاهيم قيمية تحفظ لهذا الأنموذج الإنساني الحضاري استمراريته وواقعيته في عالم متغير. لذلك حرص هذا الخطاب على خلق ميزة تفاعلية له، بدت واضحة في اهتمام الإنسان به، وإدراك العالم أجمع لما يحمله من مضامين حضارية واعدة، تبني للإنسانية فرص التحول، وتؤصل لها مساحات التقاء، تنظر من خلالها لنافذة العمل معا؛ وهو في شموليته واتساعه، واختصاره وعمقه، وتوازنه واعتداله، وقراءته للتأريخ، واستيعابه لكل التحولات الحاصلة في العالم، وإدراكه لما تحمله مضامينه من أسس بناء دولة عصرية فاعلة حاضرة في الواقع الدولي، مؤثرة إيجابا في قضاياه المصيرية، مشاركة في كل ما من شأنه ترسيخ دعائم الحب والسلام، والأمن والأمان، وتشخيصه للواقع، وحدسه بالمستقبل وتوقعاته، ورؤيته الثاقبة لمفهوم التطوير والتجديد وبناء الإنسان، لتتسع الرؤية لتشمل كل المعطيات العالمية، فتضعها في صورة مكبرة، تبني عليها سياسات الدولة، وخريطة طريق ترسم مسارات الأداء الوطني وأولوياته، لتشكل بدورها منطلقا يقرأ الحالة العمانية في كونها جزءا من عالم متسعة أرجاؤه، يعيش في ظل فضاءات التقنية المفتوحة عالم التقارب والتواصل والشراكة.
لذلك ساهمت مساحات التناغم في منطق الخطاب، والتكامل في بنيته المعرفية، والترابط بين منطق التفكير، وطريقة العمل، ومنهج الأداء، في خلق مساحات الود، وفاء لإنسانية الإنسان في داخل الوطن وخارجه، كما برزت لغة الحدس في خطاب جلالته في الحديث عن قضايا لم ينتبه إليها العالم في عقود سابقة، كالإرهاب والأيديولوجيات الدينية والإعلام، والفكر السلبي وغيرها، في حين أصبحت تشكل تحديا يعاني منها عالم اليوم، وتستهلك الكثير من موارده وإمكاناته، بل أصبحت تهدد نجاحات الإنسان، وبرامج التنمية والتطوير؛ فكان بذلك صاحب رأي سديد، ومنهج راقٍ في القيادة والتجديد، ومورد ثري في المعرفة الإنسانية والثقافة العالمية، ومؤثر بحكمته وذوقه ورقيه الفكري، ونظرته التأملية في كل المستمعين إليه والمتابعين والمشاهدين له، لما يتسم به الخطاب السامي من قوة التأثير، ارتبط بشخصية جلالته وميكانيزما القيادة التي يمتلكها، فأوجد مساحات واسعة من الإنصات له، والتطبيق لتوجيهاته، والالتزام والولاء، والتقدير والعرفان، من العالم أجمع، قياداته وشعوبه، فكان منطلقا لدراسة فكر جلالته وخطابه السامي، من الباحثين والعلماء والمفكرين والسياسيين العالمين وغيرهم كثير.
لقد كان الخطاب السامي يوجه لإنسان هذا الوطن جميعه، رسائل مختصرة الكلمات عظيمة المعنى، تفتح له آفاق الحياة، ليراها بعين التفاؤل، ويتأملها بروح المسؤولية، ويقرأها بعمق الموضوعية، ويتعامل معها بمهنية وعقلانية وحنكة، ليكون في حالة استعداد تامة لكل المتغيرات التي تحصل في عالمه، صاحب نظر بعيد يتجاوز حدود قدمه، عندما يبحث عن التطوير والتجديد والتقدم، ويلتزم حدود وطنه وهويته ومبادئه، عندما تبدأ الممارسة وتدق ساعة الصفر إيذانا بالمنافسة وإبرازا للمنجز، إذ يكون موجها طاقاته لخدمة عمان، بل ويحافظ على منجزاتها ومواردها وإمكاناتها، لقد قربت جولاته السامية ولقاءاته الحميمية الأبوية مع شعبه الوفي في المناسبات الوطنية، الصورة التي يريدها لعُمان ومن أبناء عُمان، وكان خطابه أقرب إلى التخصصية تارة، والاتساع تارة أخرى، عندما يجد أو يتلمس حصول هذا الفعل، أو يرغب في وجوده بين أبناء وطنه، أو يكون أقرب إلى العتاب، عندما يجد اتكالية من الشباب خاصة عندما تحدث عن التراث وموروث الأجداد وصناعاتهم، أو الاهتمام بالزراعة والحرف الوطنية المختلفة، وتارة يجدّد بخطابه في الشباب عزيمة الإرادة، ويبني فيهم نهضة الطموح، ويستنهض فيهم الهمة والإصرار على العطاء والإنجاز، ويفتح لهم أبواب الأمل والإيجابية والتفاؤل والاستمرارية، عندما تحدث عن قضايا الباحثين عن عمل، وعمل الشباب العماني في القطاع الخاص، وتارة يقرأ مسارات التحول في سلوك الشباب بما يصنع منهم قيادات للمستقبل، تبني الوطن ويقرأ فيهم روح العطاء والالتزام، في التعامل مع التحولات التي يعيشها عالمهم، كما هو لقاؤه مع أبنائه طلبة جامعة السلطان قابوس، وما فتحه لهم من آفاق المستقبل، وقيم الإنسان، ونهضة العلم والتعليم، والخبرة والتجربة، وتوظيف المعرفة الحقة، وبناء القدرات، وموجهات اللحاق بركب العالم المتقدم مع المحافظة على الخصوصية والهوية الوطنية ومنهج الأصالة والمعاصرة، وفهم مدخلات التغيير، على أن تسليطه الضوء في خطاباته، على قضايا تهم المجتمع والشباب والتنمية، ناتج عن إدراكه لطبيعة الجهد الذي يفترض أن يُبذل في التعامل مع هذه التحديات، فحديثه عن الحوادث المرورية وتأكيده على ضرورة الحد منها، أو إشادته بالمرأة العمانية وطبيعة الدور الذي يجب أن تحمله كشريك أساسي في التنمية والتطوير وبناء الوطن وجيل المواطنة، واهتمامه بالشباب والدور المعقود عليهم، وتركيزه على ملفات الصناعة والاستثمار والقطاع الخاص والبنية الأساسية والتعليم والبحث العلمي والتقنية، والأمن الوطني، محطات انطلقت منها مسيرة القيادة في بناء عُمان المعاصرة، فكانت أوامره السامية وتوجيهاته الكريمة، نقشا في القلوب، وإقناعا للفكر في ظل تأمل للواقع، وقراءة لما يدور في فلك العالم ونواميسه من أحداث، رسمت مسارات القوة ومفردات السعادة لإنسان هذا الوطن، ومصدرا ثريا لقيادات العالم الواعي في نشر لغة الحوار والتسامح والسلام، وبناء العلاقات الدولية على مبادئ الحق والعدل والمساواة.
في العمق: السلطان قابوس .. خطاب القلب والعقل
د. رجب بن علي العويسي
التعليقات معطلة.