في العمق : المسؤولية الاجتماعية… استشراف التنويع في خيارات الدعم والتمويل

1

 

د. رجب بن علي العويسي

يُطرح موضوع المسؤولية الاجتماعية للشركات ومؤسسات القطاع الخاص والأهلي والأفراد اليوم بقوة على المستوى الوطني في ظل الطموحات الوطنية بتمكين قطاعات المجتمع الأهلية والخاصة ومؤسسات المجتمع المحلي والجمعيات المهنية المختلفة، من القيام بدور أكبر في تحقيق التكاملية في العمل الوطني، وتوجيه المواطن نحو مسؤولياته في رد الجميل للوطن وتعظيم منطق المنافسة في خدمته، كاستحقاق وطني عليه أن يؤديه بكل كفاءة ويعمل فيه بكل مسؤولية، على أن ما فرضته الأزمة المالية العالمية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط من تأثيرات مباشرة على خطوط العمل والإنتاج الوطنية مبررا عزز من جهود الدولة نحو تبني سياسات اقتصادية داعمة للتنويع الاقتصادي وتقليل الإنفاق والاستثمار في الموارد وتعزيز حضور البدائل التمويلية والاستثمارات الناتجة من تقوية جانب المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات والأفراد في القيام بجزء من مسؤولياتها في مشاركة الدولة هذه المسؤولية وفق أطر واضحة وسياسات مقننة وأنشطة محددة وأدوات منظمة ترسيخا لقيم المواطنة وتأصيلا لمبادئ الولاء والانتماء الوطني.
لذلك شكل هذا الموضوع أحد الخيارات الاستراتيجية المطروحة في استشراف مجالات التنويع في برامج الدعم والتمويل المقدمة للحكومة، بما يعني أهمية إعادة قراءته من جديد بطريقة تتناغم مع كل التوجهات الساعية فعادة إنتاج ملف التنويع الاقتصادي، والاعتبارات والظروف المساهمة فيه بدءا من المدخلات المفاهيمية والفلسفية والفكرية التي تنطلق منها المسؤولية الاجتماعية وتطويعها للواقع العماني، وضوح مسارات العمل المطلوبة من الشركات والمؤسسات، وموقع المواطن في المنظومة ذاتها، والعمليات المرتبطة بتحقيقها على أرض الواقع، وصولا إلى تقييم النواتج المتحققة منها وإسهامها الفعلي كأحد برامج التمويل الوطني التي تتيح فرصا أكبر لقراءة موضوع المسؤولية الاجتماعية بطريقة تتجاوز الحالة الراهنة، وبالشكل الذي يصنع منها التزاما شخصيا ومؤسسيا يجنبها حالة الوقتية والمزاجية ويؤسس فيها مسارات الاستدامة والديناميكية والتأثير والتمكين، لتشكل بذلك مدخلا مهما في تعزيز الإنتاجية وتأصيل مبدأ الأولويات المجتمعية في مشروعات المسؤولية الاجتماعية، ولتصبح موردا مهما في تعزيز البنية الاقتصادية الوطنية ومساعدة الحكومة في الإنفاق على بعض القطاعات الاجتماعية التي أصبحت تشكل رقما كبيرا في موازنة الدولة.
وبالتالي ما يستدعيه ذلك من تبني سياسات وطنية تعيد هيكلة المفاهيم والاستراتيجيات والأدوات والآليات والقناعات والأفكار التي يتم التعاطي بها مع مفهوم المسؤولية الاجتماعية، لتتحول من كونها مجرد استلطاف واستجداء أو معونة أو رغبة وقتية أو ظرف لحظي يفرضه الواقع تقدم خلاله الشركات والقطاع الخاص للحكومة بعض الدعم على شكل برامج تدريبية أو منح دراسية أو تنفيذ بعض الخدمات التعليمية أو الصحية للمدارس والمستشفيات ومراكز الوفاء الاجتماعي وجمعيات المرأة العمانية، أو يقدمه المواطن للدولة (رجل الأعمال أو غيره من رجال الأموال وأصحاب الأيادي البيضاء) محدودة بوقت معين ومبادرة مرتبطة ببرنامج معين تتبناه تلك الشركات ثم ينتهي بانتهاء زمن البرنامج، إلى كونها التزام محدد بأنظمة ولوائح وأطر وطنية واضحة تقرأ المسؤولية الاجتماعية في ظل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والوطنية، عبر تعميق مسارات الحوكمة فيها وتعزيز الأبعاد التشريعية والتنظيمية والتنفيذية والرقابية والأدائية والتقييمية، وتقوية التفكير المجتمعي وحشد الرأي العام في نقل بعض نواتج المسؤولية الاجتماعية وتحويلها إلى موارد استثمارية وقفيه ثابتة ومستدامة في مجالات التعليم والصحة والتنمية الاجتماعية والابتكار والبحث العلمي وتطوير البنية الأساسية أو غيرها، وبالتالي ما تطرحه الرؤية الاستشرافية للمسؤولية الاجتماعية، من تساؤلات وحوارات ونقاشات مستفيضة ينبغي أن تشكل مدخلا وطنيا يتواكب مع الجهود الوطنية الساعية إلى التنويع الاقتصادي ويتوافق مع رؤية عمان 2040 والحراك الشعبي بشأن رسم معالمها وتحديد موجهاتها، في ظل التحولات والمعطيات الحاصلة على الساحة الوطنية والتوجهات الوطنية نحو بناء موارد استثمارية مستدامة لتغطية النفقات في العديد من المجالات المرتبطة بالخدمات الضرورة والأساسية للمواطن عبر الصناديق الاستثمارية والوقف المؤسسي وغيرها.
لقد أفصح الواقع الوطني عن العديد من المبادرات التي قدمتها بعض الشركات ومؤسسات القطاع الخاص في قطاعات النفط والغاز والبتروكيماويات والقطاع اللوجستي وشركات النقل والاتصالات وقطاع الكهرباء والطاقة، وتلك المبادرات التي تقدم بها بعض المواطنين في تعزيز المسؤولية الاجتماعية التي لم تعد حكرا على فرد دون غيره أو استئثارا من مؤسسة دون أخرى بل فتح المجال فيها للجميع ليقدم فيها من أجل الوطن ذاته، وتبقى المنافسة فيها ترجع إلى كفاءة هذه المبادرات واستدامتها والبصمة التي تتركها على الواقع الاجتماعي، لذلك أصبح التعاطي معها في ظل ما أشرنا إليه من مبررات، يتطلب مزيدا من الوضوح والتقنين والفاعلية من خلال إدارة واضحة للمسؤولية الاجتماعية وتحقيق معايير الثقة فيها وإعادة تقييمها من خلال بنيتها المؤسسية والتشريعية والتنظيمية وكفاءتها الإنتاجية وحجم الاستجابة لها، وتوفير بنية معلوماتية وإحصائيات دقيقة وأنشطة محددة تستند إليها الشركات ومؤسسات القطاع الخاص في تحقيق معاييرها والالتزام بالمواصفات الوطنية المأمولة من تحقيقها على الواقع، ومأسسة هذا التوجه في كل المؤسسات والشركات للمساهمة بأنشطة نوعية ومبادرات استثنائية تتقاسم المشترك مع رؤية الدولة وتوجهاتها ومسؤولية المؤسسات، وفق إطار وطني وسياسات واضحة تقرأ هذا الموضوع في ظل الاحتياج، لتصبح مساهمتها تتسم بالاستقرار والاستدامة ووضوح المسارات التي تستند إليها، بحيث تنتقل المسؤولية الاجتماعية في ظل نهج الاستدامة والتنوع من كونها مسألة اختيارية تخضع للمزاجيات والرغبات وتقدير الرؤساء التنفيذيين أو مجالس الإدارة بما يمكن أن تقدمه الشركة في النطاق الجغرافي لعملها لاستيعاب بعض الخدمات المرتبطة بتواجد هذا القطاع الإنتاجي في المحافظات أو الولايات، إلى إطار تشريعي تعمل المؤسسات عليه منذ بداية تأسيسها، ونطاق رقابي تتخذه الدولة لمراقبة الشركات ومؤسسات القطاع الخاص على عدم الوفاء بالتزاماتها نحوه، بما يؤكد الحاجة إلى وجود تشريع وطني نافذ يلزم مؤسسات القطاع الخاص في أداء مسؤولياتها الاجتماعية عبر استقطاع جزء من أرباحها السنوية أو أصولها الاستثمارية بما نسبته 3% تتجه عوائدها إلى الصناديق الاستثمارية أو الوقفية ذات العلاقة، على أن لا يكون ذلك بديلا عن قيام الشركات بأي مسؤوليات مجتمعية أخرى تقل نسب المساهمة فيها عن مليون ريال عماني، بحيث يعمل هذا الصندوق ضمن آليات وقواعد عمل واضحة توجه نواتجه للأنشطة والبرامج النوعية المرتبطة بالتدريب والتوعية والتثقيف وصقل المهارات، وإنشاء المراكز الثقافية والعلمية وتوفير التقنيات الحديثة، وإنشاء المؤسسات الحيوية وذات النفع العام والبيئات الترويحية، وتسهيل الإجراءات في بعض الخدمات وتشغيل الكفاءات الوطنية، وتوفير فرص أكبر للباحثين عن عمل بالتنسيق مع الجهات المختصة وتعزيز أسر الضمان الاجتماعي المنتجة، وتعزيز فرص أكبر للشباب في قطاع الابتكار وريادة الأعمال وتنفيذ أنشطة اقتصادية متنوعة.
كما أن وضوح طبيعة المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات الخاصة، سوف يضع حدا للتوجهات ذات البعد الشخصي والأهداف الوقتية التي يطالب بها المواطن أو بعض المؤسسات هذه الشركات والمؤسسات المتواجدة في نطاق الولاية أو المحافظة كتنفيذ مظلات للمدارس أو توفير أجهزة للمراكز الصحية أو قاعات متعددة الأغراض، وهنا يأتي التأكيد على أن وجود مرجعية وطنية في إدارة المسؤولية الاجتماعية أو تفعيل الأطر المؤسسية القائمة حاليا “الهيئة العامة للشراكة من أجل التنمية” وتعزيز اختصاصاتها في توفير حزمة من البرامج والخطط والمشروعات ذات العلاقة بالنفع العام مسترشدة بموجهات الخطط الخمسية وأولويات العمل فيها في ظل تقييم للوضع القائم وقراءة شراكة المواطن لمدخلات التطوير ونوعية الخدمات والأنشطة الترويحية والثقافية والاجتماعية التي تحتاجها قطاعات التنمية، بما يؤكد أهمية بناء آليات واضحة لتحقق تنفيذ هذه المشروعات بحيث يستفيد منها المواطن بالشكل الصحيح، وتصبح مسؤولية المواطن في الابتكارية فيها والإضافة إليها والمحافظة عليها ومتابعتها، وتمكينها من الاستمرارية في أداء أدوارها الريادية في المجتمع.
وعليه، فإن تحقيق كفاءة نوعية موثقة بمؤشرات أداء، ومعايير تميز في نواتج المسؤولية الاجتماعية على كل القطاعات المجتمعية، تظهر في قوة التعاطي المؤسسي مع الرؤية الوطنية لها والتفاعل معها، والحرص على إبرازها في عمل هذه الشركات ومؤسسات القطاع الخاص والمواطنين، والعمل على إدماجها في توجهات الدولة في الصناديق الاستثمارية والوقفية وغيرها، مرهون بتكامل جملة من الموجهات والأطر، من بينها أولا: تبني استراتيجيات وطنية شاملة في قراءة واقع المسؤولية الاجتماعية على مستوى السياسات والتشريعات والخطط والبرامج ووضوح المسارات وتقنين السلوك القائم وفتح آفاق أوسع للتفكير الوطني في الآليات والبدائل والضمانات والمشروعات والإمكانيات والخيارات التمويلية التي يمكن أن تقدمها على مسار العمل الوقفي والاستثماري، وثانيا: العناية بمجالات التوعية والتثقيف والرسالة الإعلامية، بحيث يقوم الإعلام بدور أكبر في قراءة المسؤولية الاجتماعية من أوسع أبوابها، بما يؤسس لها في فقه المواطن وثقافته، وثقافة عمل الشركات ومؤسسات القطاع الخاص من كونها خدمة مؤقتة إلى سلوك وطني مستدام يلتزم المعايير ويحقق الغايات والأهداف في ظل منحى الأولويات الوطنية، وكيف يمكن أن تحقق للمواطن فرص أكبر للاستقرار والحياة الكريمة، وثالثها: ترقية فكر المواطن ذاته عبر تعزيز دور الخطاب الفقهي والديني في سبيل حث المواطن على الإنفاق والصدقة وأعمال البر المستدامة، ونقل المبادرات والنفقات والصدقات والهبات التي يقدمها في المسؤولية الاجتماعية من حالة وقتية منتهية إلى سلوك استثماري وقفي مستدام، وصناعة النماذج الوطنية الساعية لتحقيق هذه الغايات ومنحها فرص الظهور والبروز عبر تعميق التنافسية ومظاهر الولاء والانتماء الوطني، وتأصيل ثقافة المواطنة الإيجابية المنتجة كأحد المدخلات لتغيير قناعات المواطن وتصحيح المفاهيم المغلوطة لديه حول المسؤولية الاجتماعية، ورابعها: ضمان توفير تشريعات وطنية منتجة قادرة على احتواء عالمية هذا المفهوم وآليات تطبيقه دوليا من أجل بناء سياسات أكثر نضوجا واستدامة في المسؤولية الاجتماعية، بما يضمن استفادتها من التطوير الحاصل للمفهوم على المستوى العالمي ودور الشركات الكبرى في العالم في هذا الشأن، واستيعاب كافة أشكال التعبير الوطني الحالية والمستقبلية فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية وسن التشريعات والمواد التنظيمية وغيرها، وخامسها: مستوى المرونة والديناميكية الحاصلة في تناول الموضوع بما يجنبه التعقيدات الإدارية والبيروقراطية، وتقليل فاقد العمليات المتكررة الناتجة عن البطء في الإجراءات أو إشكاليات التسجيل والموافقات والحوافز، وسادسها: يتعلق بإنشاء صندوق استثماري وطني للمسؤولية الاجتماعية تصب فيه كل الموارد والهبات والأصول الاستثمارية المقدمة من الأفراد والمؤسسات والشركات، وتعظيم كفاءة الصندوق في تثمير هذه الموارد وتوجيهها لمصارفها المحددة، وسابعها: فرض نسبة استقطاع لا تقل عن 3% من الأصول الاستثمارية والعوائد والأرباح المتحققة للشركات والمؤسسات الخاصة تراعي نوعية النشاط وحجم الفائض ونسب النمو السنوي والأرباح والاستثمارات كجزء مستقطع للمسؤولية الاجتماعية.
من هنا تأتي الحاجة اليوم إلى إعادة هندسة هذا القطاع كخيار تمويلي استراتيجي مالي داعم، وتوليد قطاعات متجددة تسهم فيها المسؤولية الاجتماعية بدور أكثر وضوحا في رصد أفضل الممارسات وأكثرها قربا لحياة المواطن وأولياته اليومية

التعليقات معطلة.