د. رجب بن علي العويسي
يأتي تناولنا للموضوع في ظل ما يبرزه الواقع الاجتماعي من تحولات على مسار الفكر والقناعات، في ظل الدعوات المستميتة نحو تعزيز الحريات المجتمعية، هذه الدعوات التي أنتجت اليوم تحولات عكسية على مسار الأمن العام للدول والمجتمعات، أدت إلى خلخلة الكيان الاجتماعي والأسري، وانتكاسة تعرضت لها الكثير من البلدان في منطقتنا العربية أو العالم، وهي حرية استهدفت إطلاق العنان للنفس لتفعل ما تريد من غير قيد أو شرط، أو دون اعتراف بمسؤولية أو انضواء تحت طائلة العقوبة أو الجزاءات، على أن هذا الواقع الذي أخذ الكثير من الاهتمام لدى وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وبعض المنظمات الدولية، عزز من الحاجة إلى ضبط مسار هذه الحريات وتقنينها بالشكل الذي يتناغم مع أهداف الوطن العليا وغاياته السامية وسياساته الداخلية والخارجية بحيث تصبح هذه الحريات مساحات أمن اجتماعي لتعزيز بناء الإنسان وترسيخ قيم الأوطان، لذلك كانت علاقة الحرية بالوعي الاجتماعي علاقة عضوية، فلا يمكن القول بوصول المجتمع إلى مرحلة الوعي والشعور بالمسؤولية، إلا إذا وظف مساحة الحرية المتاحة له في المجتمع باعتبارها صمام أمان، تستند إلى قواعد وأسس واضحة ومنطلقات وموجهات وضوابط حاكمة، كما أن قدرة المجتمع على ممارسة حرياته في إطار من الحكمة والمهنية والقيمية والأخلاق، وإدراك للمصالح الوطنية وانتزاع لأنانية النفس ونزول نحو مصلحة المجتمع يتطلب وعيا حقيقيا بها وضبطا لموجهاتها، لذلك فهما وجهان لعملة واحدة وهي الوصول بالمجتمع إلى القوة الفكرية والنضج المعرفي والسمو الأخلاقي، مجتمع يصنع الإرادة، ويؤمن بالمنافسة، ويستفيد من الخبرة، ويتقن الإنتاج ويطور أدواته، ويخلص في مهامه، ويبني علاقة ود مع مؤسساته وقيادته، ويضمن الاستفادة من موارده، والاستثمار في كفاءاته البشرية، وعندها تصبح الحرية مساحة الأمان التي تتيحها الدولة للمواطن ليمارس فيها أدواره ومسؤولياته بكل اختيار ورغبة، وشعور بالمسؤولية، مع الاحتفاظ بسقف التعاطي الواعي معها، في ظل ما يقره التشريع ويحتكم إليه القانون، وهي مساحة إن استغلها المواطن بالشكل المناسب، وصنع لها الخيارات الداعمة لنموها وتفوقها، مؤهلة لأن تصل به إلى بلوغ أهدافه وتحقيق غاياته.
لذلك كان تناول الحرية مرتبطا بالوعي، منسجما مع أولويات نقل المجتمع إلى الإنتاجية، والبحث عن المستقبل في قدرات أبنائه وعطائهم المستمر، وتصبح عمليات التكامل بينهما والتناغم في مقتضيات عملهما منطلق لبناء مسارات التوازن في فهم الحالة المجتمعية وتشخيصها وتطوبرها والانطلاقة بها لمرحلة التأثير وتقديم الحلول للمشكلات والتحديات الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والفكرية والتعليمية والاقتصادية وغيرها، لما يمكن أن تسهم به الحريات المقرونة بالوعي من تحويل الأنماط السلبية إلى موجهات إيجابية من خلال من تحمله من أطر وأدوات وآليات تتسم بالمهنية والمصداقية، وما تؤمن به من منطلقات قائمة على النقد البناء والاعتراف بالرأي والرأي الآخر وحرية التعبير في ظل القانون، فالوعي يمنح الحرية مساحة أكبر للبروز والظهور والتأثير والاستدامة في اختيار الفرص وتوظيف البدائل، وتقريب المفاهيم والأفكار والنماذج المحاكية للواقع في فهم الحريات إذ هي بالأساس حريات مسؤولة يكفلها القانون وتحميها الأنظمة والتشريعات وفق ممارسات معتدلة، وأنماط فكرية متزنة واعية بقيمة حس الكلمة ونمط التعبير، وآلية الوصول للحقوق وطريقة الحصول عليها، وموجهات وأطر وطنية وتشريعية ودينية وفكرية تستجيب لدواعي الضمير الحي المخلص للأوطان، وسلوك منهج القوة المستند على نبوغ أرصدة القيم والأخلاق والهوية، في منح الذات استقلالية التفكير، وإيجابية الفكر في مواجهة الأفكار المحبطة والتدخلات المغرضة، وأصحاب الحسابات الوهمية والأسماء المستعارة عبر منصات الواصل الاجتماعي، إن مسارات التناغم عندما تؤمن بها المجتمعات، وتعمل على تحقيقها الأنظمة، لا شك بأنها قادرة على نقل الإنسان المواطن من الفردانية إلى المجتمعية، ومن سلبية النظرة وعقم التفسير إلى مساحات أوسع من التأمل والتحليل والإيجابية والحيادية المؤطرة من خلال منهجيات العمل، ورصانة الثقافة، وتنوع الدلائل وقوة الشواهد وتعدد المؤشرات وتوظيف الإحصائيات، وعندها تصبح الحرية المراد تحقيقها الترجمة الحقيقية للوعي، كونها حرية مسؤولة تستهدف بناء الإنسان وتحقيق العيش الكريم له، ومنحه فرص أكبر لابتكار الأدوات المناسبة لطبيعة التحديات الذي يواجهها بتوظيف البحث والابتكار والاختراع كمنصات للحرية داعمة له في هذا الشأن، فإن هذا التنوع في البدائل، واستخدام أدوات مقبولة في التعبير عن الحقوق والمطالبة بها، سوف يضمن الاستفادة من التباينات الحاصلة باعتبارها محطات للالتقاء ومشتركات لأجندة العمل القادمة، والطريق الذي يمكن من خلاله بلوغ الأولويات وتحديد الاحتياجات، وفرصة أكبر للتصالح الذاتي والترابط المجتمعي.
إن طريقة تعاطي البعض مع مفهوم الحريات على أنها حق مكتسب لا يبيح له أن يصنع منها ملحمة بطولية وشهرة لا أخلاقية يصفق لها البعض، ومدخلا للفوضى، ومنطلقا للإشاعة، ودعوة لكسر القانون وتجاوزه، وسقوط في هاوية التنازع والاختلاف، وركون إلى البحث عن السلبيات وإنكار لجهود التنمية، ودعوة للفرد بالانسلاخ من مبادئه وقيمه وأخلاقه وأعرافه، حتى وإن كلف الأمر خراب الأوطان وذهاب قوتها وهيبتها، والتعدي على سيادتها، أو نزوع عن الأخلاق، ونفوق في القيم، وانحراف عن نهج المجتمع وهويته، وإثارة للفتنة وإشغال الناس بأفكار بائسة، وزيادة فجوة الثقة بين الشعوب والحكومات، وما ولدته هذه التوجهات الفكرية من ثقافة الكراهية بين الشعوب، والعداء للحكومات، وما حالة التمزق والتشريد والفتن والحروب ودخول الجماعات التكفيرية والإرهابية على الخط التي تشهدها بعض بلدان العالم، إلا أحد نواتج الحريات المزعومة التي تتملص من أي قيود أو ضوابط أو قيم وأخلاقيات، فإن الحريات التي لم يصادفها الوعي أو تقترن بها الأخلاق أو تحتويها الهويات أو تضمها العقول الناضجة والضمائر الحية والأذواق الراقية، حريات مبتورة تفتقد للوعي الذي يعزز فيها منحى الإنسانية، ويُلبسها ثوب الأخلاق والقيم، ويؤصل فيها أخلاقيات الإنسان وفضيلة الرشد، وهي بيئة أسيرة للفوضى ومساحات خصبة للجراثيم الفتاكة، وموطن لتكاثر روائح المذهبية النتنة والعصبية العرقية البغيضة.
من هنا فإن التأكيد على التكامل بين الوعي والحريات كمطلب اجتماعي وأولوية وطنية لكل الشعوب التي تسعى لأن يكون لها في عالم اليوم حضورا فاعلا ونشاطا مؤثرا ووزنا يرسم لهذا العالم طريق النجاح ومنهج الإخلاص ويؤسس لمجالات أكبر للشراكة والتصالح مع النفس والثقة في الحوار والمصداقية في اللقاء والاعتراف بحق الآخر في العيش والحياة والوجود والتعليم والصحة، فإن الوعي والحريات مسار لتصحيح الواقع وتغيير المسار وتعميق روح المسؤولية وحس التنمية، في ظل حكمة عقل ورقابة ضمير، وشعور إنسان، فيأخذ بمنظور الحرية، ليُعلي من سقف المطالب المشروعة، وفق مبادئ العدالة والمساواة والحقوق، وتصبح الحقوق نتاجا لقدرة الإنسان على تحقيق أولويات وجوده، والمهام المطلوبة منه نحو مجتمعه ونهضة أمته وقدرته على نقل مساحات التعايش والتمكين والحوار إلى سلوك يومي ومنهج حياتي يظهر في أقوله وأفعاله وردوده وإخلاصه والتزامه وانضباطه وهويته وسلوكه وأخلاقه في حفظ الحقوق وأداء الواجبات والقيام بالمسؤوليات، فيتعامل معها بوعي ومهنية ويحميها ويحفظ توازنها ويوجه مسارها ويضبط آليات عملها ويؤصلها في المجتمع بطريقة تضمن قدرة هذه المساحات من الحريات على تحقيق الأمان النفسي والفكري والجسدي له، فإن وجود الوعي دليل على وضوح الأهداف ورقي الأدوات ودقة تحقيقها ووجود شراكة مجتمعية من كل الطوائف نحو بلوغ مستويات أعلى من الأمن البشري، فيصبح التوجه إنما هو لصالح التنمية المستدامة وتأصيل منظومة قيمية أخلاقية، والمحافظة على سيادة الدولة ووحدة الوطن وكرامة الإنسان ووضع الحكومات أمام مسار مراعاة حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وتوجيه الممارسات نحو انتقاء أفضلها، بما يحفظ لحمة المجتمع وتكاتف أبنائه، وبالتالي تكوين حالة من التريث والتأني في التعاطي مع الأمور، وتجنيب الاندفاع والحكم المسبق على ممارسات الطرف الآخر، وكف اليد واللسان من التطاول على المصالح الوطنية العليا، والعبث بمقدرات المجتمع أو التأثير على الناس بأفكار أحادية.
إنّ الحريات المسؤولة التي تحتاجها مجتمعات اليوم في حل الأزمات التي تلاحقها، إنما تقوم على معادلة التوازن بين الوعي والحرية، كونها المعادلة الأقوى في حلحلة سوء الفهم الحاصل حول قضايا الحريات الدينية والأخلاقية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسلوكية والتفسيرات والتأويلات ووجهات النظر بشأنها، فهما معا يغردان داخل سرب الوطن، وينهضان بسواعد أبنائه في مواجهة حالة التغريب التي تشهدها الأوطان، فالتفاعل الإيجابي الحاصل بين الحريات المسؤولة والوعي الاجتماعي، هو ما ينقل المجتمعات للاهتمام بالأولويات، والتعامل مع التحديات بكل ثقة، والتخلص من النظرة الأحادية في التعاطي مع قضايا الوطن والمواطن، إذ تقرأ للوطن في رؤية مكبرة وتتعاطى مع الممارسات الحاصلة بكل حكمة وثقة بقيمة الحوار والتصالح والتفاهم، فيصبح المقصد ترجمة حقيقية لمجتمع يسوده الأمان والاستقرار، ويحتكم أبنائه إلى معايير وقيم يتقاسمون المشترك بينهم، ليبنوا في ظلها منظومة الثوابت التي بها يتقدم المجتمع ويتطور، فأمن الوطن ووحدة أرضه وترابه خط أحمر لا يصح تجاوزه بأي نمط من أنماط التفكير، أو أي أسلوب من أساليب الترويج، لهذا فإن أي ممارسة باسم الحرية لا ينبغي أن تتجاوز إطار المقبول مجتمعيا، أو أن تتقاطع مع هوية المجتمع ومعاييره وأحكامه، وأن على العالم أجمع وعبر منظومة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الأخرى أن تتعاطي بكل حيادية ونزاهة مع مفهوم الحريات، بما يتناغم مع السياسات العالمية المشتركة بين شعوب الأرض، النابعة من خصوصياتها وأخلاقها ومبادئها وقوانينها ودساتيرها، باعتبارها معايير حاكمة في توجيه الحريات وتوفير أرضية أوسع لاستدامة إنتاجيتها وضمان واقعيتها.