د. رجب بن علي العويسي
ينطلق تناولنا للموضوع من عضوية العلاقة بين التحولات التي تعبر عنها المؤشرات الإحصائية الاجتماعية الحاصلة في المجتمع وتكوين شخصية المواطن العماني، بما يضع حدا لتأثير العوامل المختلفة على مكونات هذه الشخصية، بما لا يفقدها خصوصيتها أو يشوّه صورتها الإيجابية، وما أكسبه هذا التحول من مسارات متعددة قد تقترب أحيانا أو تبتعد في أحيان أخرى عن المأمول من الطباع والمرجو من الممارسة ويتقاطع في أحيان أخرى مع الطموح الشخصي أو المجتمعي، وبالتالي كيف يمكن للمواطن العماني في ظل هذه التراكمات أن يحافظ على هويته ويؤصل دافع المواطنة لديه، وبين استفادته من هذا الواقع في ضمان إنتاج القوة وبناء المهارة وتحقيق المنافسة وترشيد السلوك وترقية الهدف، لبناء مسلك واضح في شخصيته يتكيف مع معطيات الواقع والفرص المتاحة لنجاحاته واستعداداته، ويبرز جوانب التميز في شخصيته وقراءته للأحداث وتجاوبه مع الأفكار المطروحة، لضمان الاستفادة الكبرى من إيجابيات هذا التحول والوقوف على نواتجه السلبية بالعمل على تصحيح الممارسة ومراجعة الذات وإعادة هندسة السلوك الاجتماعي، فيتفاعل مع بني جلدته من أبناء المجتمع عبر شبكة متوازنة من العلاقات والمشتركات القيمية والأخلاقية والتاريخية، وحتى لا يتم التشعب في الموضوع، فإنه من الصعوبة بمكان الإحاطة بكل التغيرات والتحولات الحاصلة في مقال واحد، أو سرد تفاصيلها الدقيقة، أو التوسع في بيان تأثيرها على حياة المواطن، وإنما يبقى ما يمكن تقديمه إشارة مختصرة لبعض هذه العوامل من واقع مؤشرات المركز الوطني للإحصاء.
على أن الكثير من التحولات التي فرضت نفسها على الواقع الاجتماعي بالسلطنة، وأصلت للكثير من المفاهيم والمصطلحات والثقافات التي بات التعاطي معها يحتاج إلى مزيد من التشريعات التي تضمن لها مساحات أكبر للتقنين والضبطية، بالشكل الذي يجعل منها منصة مراجعة وطنية يستقرئ خلالها أدواره ومسؤولياته، وكيف يمكن أن يحقق لوطنه الكثير من الطموحات على أرض الواقع، بمعنى أن ما ينبغي التأكيد عليه هو ألا يكون النظر إلى عملية تزايد هذه التحولات وانتشار تأثيرها، كمبرر يعيق المواطن عن العمل، أو يبرر موقفه من سلوك الاتكالية والاعتماد على الغير، بل أن يعمل على إعادة هندسة الواقع في ظل ما تتميز بها السلطنة من قيادة سياسية حكيمة وسلوك سياسي متزن وتطورات اقتصادية ومشروعات سياحية واستثمارية واقتصادية تراعي في نشاطها منظومة القيم والمبادئ والأخلاقيات التي رافقت العمانيين في كل محطاتهم الحضارية.
وعليه، فإن من بين المتغيرات التي باتت تفرض واقعا جديدا يجب التعاطي معه بكل مهنية وفهم مقتضياته وأولوياته وإدراك مراحل تطوره وآليات تشكيله وتقييم جوانب التحول فيه، ما يرتبط بالحالة السكانية وملفات أخرى تتعلق بالباحثين عن عمل والأمن الاجتماعي والقطاع الخاص، وغيرها، ويصبح الوقوف عندها محطات استراحة لفهم التغير الحاصل، والدور الإيجابي للمواطن في تبني سيناريوهات عمل بديلة وأنماط سلوكية لمعالجات هذا الواقع، بحيث يقرأ فيها المواطن الوجه المشرق الذي يمنحه أرضية صلبة في امتلاك القوة في الأدوات والاعتماد على الذات وتوظيف الخبرات واغتنام فرص كسب المعرفة المجيدة، وإعادة تقييم الواقع وفهم آليات التفكير، وتنقية واختيار أفضل الأساليب التي برزت أهميتها في تشكيله، ثم تقييم موقعه في هذه المنظومة، ونعتقد بأن هذه المؤشرات كفيلة بإعادة القوة في نواتج التعبير عنها في شخصية المواطن وما يكتشفه من محطات تغيير ونظر، فالزيادة الحاصلة في عدد سكان السلطنة اليوم والتي تشير إلى (4.672.909)، شكل فيها العمانيون(2.637.36) ما نسبته 56.40%، في مقابل (2.35.873)، للوافدين بما نسبته 43.60%، فرضت اليوم مسارات كبيرة على برامج والخطط والسياسات والمشروعات التنموية، والتفكير في استراتيجية أكثر استدامة لتغطية التكاليف المرتبطة بها أو كذلك ما يسببه ذلك من ضغط على الموارد واستنزاف لها وإشاعة استخدامها من الجميع، وتلاشي حالة الخصوصية التي يمكن أن يستأثر بها المواطن العماني نظرا لمشاركة الوافدين له في هذه الموافق الصحية والاجتماعية والتعليمية والترفيهية وغيرها، هذه الزيادة في أعداد السكان نتج عنها وجود العديد من التحديات المرتبطة بالأمن والسلوك العام وبروز أكبر لمهددات الأمن الاجتماعي والأسرة عبر سلوك الإجرام والجناة إذ تقع حوالي 3 جرائم لكل 1000 من السكان في السلطنة، وقد بلغ التوزيع النسبي للجناة العمانيين في عام 2017 (47%) عمانيا، وبلغ إجمالي عدد الجناة في السلطنة 20.8 ألف جانٍ؛ شكل الشباب(18-29) سنة ما نسبته (39%)، كما بلغ عدد الجناة العمانيين الشباب (4065) جان، حيث شكل ما نسبته (50%) من إجمالي الجناة الشباب، وقد شكلت الجرائم الواقعة على الأفراد النسبة الأكبر بين جرائم الجناة الشباب العمانيين حيث بلغت(28%)، هذه الزيادة الحاصلة يصاحبها في الجرائم يصاحبها زيادة مطردة في أعداد الوافدين الجناة حيث بلغت حسب الإحصائيات الأخيرة 52%. وعند الحديث عن تأثير هذه الزيادة المطردة في عدد السكان العمانيين، يصبح الحديث عن قدرة الدولة على الوفاء بكل الالتزامات المالية أمرا من الصعوبة التكهن باستمراريته، ويصبح البحث عن وجود بدائل اقتصادية أخرى مسؤولية الدولية كما هي مسؤولية المواطن، خصوصا إذا ما علمنا أنه مع أن عدد حالات الضمان الاجتماعي قد اتجه إلى الانخفاض في السنوات الأخيرة من (81.942) حالة في عام 2016 إلى (79.487) حالة في عام 2017 مع تبني برامج التمكين الاقتصادي لأسر الضمان الاجتماعي للخروج من مظلة الضمان إلا أن المصروفات المالية ظلت عالية حيث بلغت (122.946) مليون ريال عماني في عام 2017 في حين بلغت في 2016 (119.129) مليون ريا ل عماني.
وفي إطار آخر يطرح الواقع الأسري اليوم الكثير من التساؤلات المرتبطة بالاستقرار الأسري خصوصا في ظل ما تشير إليه مؤشرات الاستقرار الزواجي، إلى استمرار تراجع حالات الزواج في السنوات الست الأخيرة، وشهد عام 2017 تراجعا أكبر في تسجيل وثائق الزواج حيث وصلت (22.284)، في حين شهدت حالات الطلاق زيادة مقارنة بالانخفاض السلبي في حالات الزواج، حيث حصلت في عام 2017 على الأعلى في عدد شهادات الطلاق وبلغت (3.867). وعودا على الملف الاقتصادي وما يثيره موضوع الباحثين عن عمل من قلق اجتماعي كبير في ظل تزايد أعداد المخرجات التعليمية من مؤسسات التعليم العالي والدبلوم العام وقلة الانخراط في القطاع الخاص وزيادة أعداد الباحثين عن عمل مع سيطرة الأيدي العاملة الوافدة على المهن والوظائف الأساسية في هذا القطاع، حيث أشارت إلى تزايد أعداد الباحثين عن عمل بالرغم من الجهود والحلول التي قدمتها الحكومة في هذا الشأن حيث بلغت (43.8) ألف باحث عن عمل في السلطنة عام 2016، وأن (66%) من الباحثين عن عمل هم من فئة الإناث، كما أن (77%) من الباحثين عن عمل في سن الشباب دون سن 30 عاما، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 82% بين الذكور مقابل 74% بين الإناث، كما أشارت إلى أن نسبة حملة شهادة الدبلوم العام من الباحثين عن عمل شكلت (31%)، في حين بلغت الإناث الباحثات عن عمل من حملة مؤهل جامعي فأعلى (47%) على أن الإحصاءات الفترية حول الباحثين عن عمل تشير بوجود زيادة مستمرة في معدلاتها على مختلف المتغيرات سواء النوع والفئة العمرية والمستوى التعليمي وغيرها. هذا الأمر يحصل بالرغم من وجود الفرص الوطنية التي تستطيع استيعاب هذه الاعداد بما يعني أن الجهد الذي تقدمه الحكومة والمؤسسات لا يكفي إلا إذا استوعب المواطن نفسه حجم هذا الواقع وأدرك أهمية انخراطه في القطاع الخاص وأدرك هذا القطاع ذاته مسؤوليته الاجتماعية، فالزيادة في عدد الوافدين المشتغلين بالسلطنة مستمرة في كل السنوات فمثلا بلغ في عام2017، عدد الوافدين المشتغلين (1.832.072)، وبلغت نسبة التعمين في القطاع الحكومي للعمانيين (83.5%) عام 2016 مقارنة بنحو (11.6%) فقط من العمانيين في القطاع الخاص.
وبالتالي كيف يمكن توظيف هذه المؤشرات بمختلف حالاتها في بناء صورة ذهنية إيجابية لدى المواطن والشباب حول واقعهم وتعميق التفاؤلية في التغيير القادم بما يحفظ للمجتمع العماني خصوصيته وللمواطن موقعه الريادة في حركة التطور الاجتماعي، إذا ما علمنا أن إعادة هندسة هذا الواقع يجب أن تبدأ من المواطن نفسه في مجتمع يشكل فيه الشباب رقما استراتيجيا صعبا في معادلة التنمية حيث بلغ العدد الإجمالي للشباب في الفئة العمرية(18- 29) سنة في السلطنة بلغ 1.2 مليون شاب وشابة بمنتصف عام 2017م، وشكل الشباب العمانيون ما نسبته 46.7 % منهم. وما يمكن أن يؤسسه هذا الواقع من ضغط على جهود الدولة وموازناتها ومواردها، يجب أن يساهم الشباب بجزء مهم في حلحلة هذه المشكلة، بحيث يتولد لديه يقينا من الإيجابية والتفاؤل بإمكانية البحث عن حلول مقنعه وممكنات داعمة نحو الاستفادة من كل الفرص المتاحة لهم في الواقع التنموي وجهود الدولة نحو التمكين والشراكة والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة وغيرها، أو فهم التحديات بطريقة تلتزم مسارات واضحة تقوي من كفاءة هذه الشخصية وبناء ارصدة نجاحات متقدمة لها، وهو جهد ينبغي أن تتناغم مساراته وتقوى شواهده في الواقع ويتفاعل المجتمع بكل فئاته وأطيافه في بلوره صيغة متكاملة لها، وبما يطرحه ذلك على مسار بناء الشخصية العمانية من تساؤلات ونقاشات مستفيضة ينبغي أن تتجه لرسم خطة التصحيح والمعالجة الواقعية والمراجعة الشاملة لها من المواطن نفسه فيبدأ بتغيير قناعاته، ويصحح مفهومه المغلوط عن القطاع الخاص والعمل الحرفي، وفي المقابل أن تعيد المؤسسات المعنية تنظيم وتقنين وتوجيه الممارسة الوطنية في هذا الشأن بما يضمن قدرة الشباب العماني على تحقيق هوية الإنجاز القادم ومواكبة متطلبات مسيرة التحول النوعي في الاقتصاد المعرفية، ورسم استحقاقات المرحلة القادمة التي تتجه أكثر إلى تعزيز السياسات التنموية المعززة للابتكار والبحث العلمي والريادة والتنافسية والاستعداد للثورة الصناعية الرابعة وتبرز فيها مسؤولية الشباب العماني كقيمة مضافة في مسيرة التحول في الإنجاز من خلال منصات التعليم والإعلام والتدريب والخطط التنموية والموازنة العامة للدولة ورؤية عمان 2040 واستراتيجيات التنويع الاقتصادي “تنفيذ”، وما يعنيه ذلك من وعي الشباب وقبوله لسياسة الأمر الواقع بالدخول بقوة في هذا القطاع كممارس فاعل وخبرة وطنية رائدة وأنموذج للمواطن المنتج في الحصول على استحقاقاته الوظيفية الناتجة عن جدارة وتنافسية والتزام.
من هنا تأتي أهمية وضع المواطن في موقع إنتاج القوة وبناء الذات والقدرات والمهارات وصناعة القدوات، بشكل يستفيد من الفرص والممكنات الداعمة وتوظيفه لمعطياتها وتعزيز المعرفة الوظيفية التي يمتلكها حول مسؤولياته القادمة المعززة بالتشريعات والقوانين وأنظمة العمل المتعلقة بتقييم نواتج هذه المؤشرات وتعظيم الاستفادة منها على ابعد الحدود، وكيف يمكن للمواطن أن يستفيد من طبيعة هذه التحولات في رسم خريطة إنجاز وتحقيق أرصدة نجاح قادمة، تؤمن بالمنافسة النوعية والقدرة على تجاوز الإشكاليات واستكشاف بدائل تطويرية لصناعة مسار واضح في شخصيته يحفظ له هويته ويضمن سلامة فكره ورصانة تفافته.