في العمق : حين تصبح القيم معيارا للأداء المؤسسي

1

د.رجب بن علي العويسي

تُمثِّل القِيَم في جوهرها الإطار المنظِّم للسلوك الاجتماعي المؤسَّسي، والمرجعيَّة الأخلاقيَّة للقرار الإداري، والبوصلة الَّتي تحدِّد مسارات العمل، وتوجّه الأدوات، وتضبط الممارسات، وتمنح المؤسَّسة هُوِيَّتها المميزة وسمعتها لدى المُجتمع والشركاء والمستفيدين؛ وهي معيار يُقاس من خلاله جودة أداء المؤسَّسة وكفاءتها الداخليَّة والخارجيَّة. فإنَّ أيَّ مؤسَّسة تحقق الجودة في أدائها، والاستدامة في نشاطها، والتطور في أساليب عملها، إنَّما هو نتاج قاعدة قِيَميَّة واضحة ومؤصلة في بنيتها التنظيميَّة وثقافتها المؤسَّسيَّة، فهي بذلك قِيمة مضافة تسهم في تعزيز الثقة، وترسيخ الاستدامة، وبناء المؤسَّسات والشركات القادرة على البقاء والتنافس في بيئات متغيرة ومعقَّدة، فإنَّ جودة الأداء المؤسَّسي لم تَعُدْ تُقاس فقط بمؤشرات الإنجاز الكمي أو المالي، وإنَّما أيضًا بما تعكسه المؤسَّسة من ثقافة تنظيميَّة راقية، وبما تُترجمه قراراتها من التزام أخلاقي، وبما يظهر في ممارسات العاملين فيها من نزاهة ومسؤوليَّة واحتراف، لتتحولَ القِيَم إلى معيار للتفاضل المؤسَّسي، وأداة لتعزيز السمعة، وجسر لبناء الثقة مع المُجتمع والشركاء، وعنصر مهمٍّ في قَبول المستفيدين ورضاهم.

من هنا، فإنَّ تجسيد القِيَم في بنية المؤسَّسات يتحقق وفق مسارين: أولهما الأفراد العاملون في المؤسَّسات، فَهُم سفراء المؤسَّسة الحقيقيون، حيثُ يُمثِّل العاملون في أيِّ مؤسَّسة الواجهة الحقيقيَّة لها، وهم الأداة الَّتي تُترجم الرؤية والرسالة إلى واقع عملي. ومن هنا، فإنَّ الاهتمام بالقِيَم يبدأ من الإنسان قَبل البنيان. فالموظف الَّذي يتشبع بمنظومة قِيَم أخلاقيَّة ومهنيَّة راسخة يكُونُ أكثر التزامًا، وأعلى إنتاجيَّة، وأكثر قدرة على التفاعل الإيجابي، وإدارة الخلافات، والتعامل مع الضغوط والتحدِّيات، لِتصبحَ القِيَم جزءًا أصيلًا من الممارسات اليوميَّة، وسجل الأداء الوظيفي، واستبانات التقييم، ومعايير الترقية والمكافأة. كما أنَّ إدماج القِيَم في تقييم الأداء الفردي للموظف يسهم في تحقيق قدر أعلى من الاتزان الانفعالي، والذكاء الوجداني والعاطفي، وحُسن التصرف، والحكمة في التعامل مع الضغوط، والقدرة على احتواء المشكلات، وإدارة الأزمات، وهي جميعها مهارات ناعمة يُقاس من خلالها كفاءة وجودة بيئة العمل.

أمَّا المسار الثاني فيكمن في النظر إلى القِيَم كنظام إداري وتنظيمي، تتحول خلاله من سلوك فردي إلى ثقافة عمل مؤسَّسيَّة تُمارس بصورة جمعيَّة، ويتمثل في مدى تأصيل القِيَم في بنية العمل المؤسَّسي، وهياكله الإداريَّة والماليَّة والرقابيَّة والتدريبيَّة، ومستوى التكامل والترابط والتفاعل والحوار داخل المؤسَّسة، وفي وضوح الأهداف، ووحدة الغاية، وعدالة القرار، والشراكة في المسؤوليَّة، وتكامل الأدوار، وتقاسم الصلاحيَّات، والاستفادة من الكفاءات، وتوظيف الخبرات. فحين تؤمن المؤسَّسة بأنَّ القِيَم نهج أصيل ومنهج عمل، وليست مجرَّد شعارات خارج التغطية ولا تلامس التطبيق، فإنَّها تؤسِّس لمرحلة جديدة عمادها التكامل والتعاون ووحدة الهدف، ومناخًا تنظيميًّا يعزز المبادرة، والابتكار، والانضباط، والإنتاجيَّة، والإخلاص، ويؤسِّس لثقافة مؤسَّسيَّة قائمة على الثقة والاحترام والمسؤوليَّة. وعندها تتحول القِيَم من التزام فردي (اختياري ومزاجي) إلى التزام مؤسَّسي منظَّم لا يتغيَّر بتغيُّر الأشخاص والمواقع والمصالح.

على أنَّ قدرة القِيَم على تحقيق معادلة التوازنات في الحياة المؤسَّسيَّة المؤدية إلى الإنتاجيَّة تظهر في تعزيز السمعة المؤسَّسيَّة والترابط الاجتماعي والشراكات الاستراتيجيَّة. فمن جهة تؤدي القِيَم دَوْرًا محوريًّا في بناء السمعة المؤسَّسيَّة، والَّتي تتشكل عَبْرَ التراكم اليومي للسلوكيَّات والممارسات والقرارات. وعندما تلتزم المؤسَّسة بقِيَم واضحة وتترجمها إلى سياسات وإجراءات عمليَّة، أكثر شفافيَّة وتفاعليَّة واستشرافًا للمستقبل وفهمًا لمعطيات الواقع، فإنَّها بذلك ترفع من مستوى الاعتراف الجمعي من الشركاء في الداخل والخارج بأنَّ هذه المؤسَّسة جديرة بالثقة، وقادرة على الوفاء بالتزاماتها، وتحمل مسؤوليَّاتها الاجتماعيَّة والمهنيَّة، الأمر الَّذي ينعكس إيجابًا على قناعات المتعاملين والشركاء. وفي الوقت نفسه، فإنَّ القِيَم ليست حالة مجرَّدة، بل هي إطار إنساني يَضْمن امتداد خيوط الترابط والانسجام. ومن جهة أخرى، تُشكِّل القِيَم إطار عمل معززًا للشراكة المؤسَّسيَّة والترابط الاجتماعي والثقة المُجتمعيَّة في المؤسَّسة، فهي لا تعزز فقط الانضباط والالتزام، بل تسهم أيضًا في تحقيق الترابط الاجتماعي داخل المؤسَّسة، وبناء الثقة بَيْنَ العاملين، وتقليص فجوات الخلاف والتباين بَيْنَ المستويات الإداريَّة. فالمؤسَّسة الَّتي تحكمها قِيَم العدالة والاحترام والمسؤوليَّة تكُونُ أكثر قدرة على إدارة الاختلاف، وتحويل التنوع إلى مصدر قوَّة، وخلق بيئة عمل محفّزة على التعاون والشراكة، وتنعكس هذه البيئة الإيجابيَّة مباشرة على مستوى الإنتاجيَّة، وجودة الأداء، والولاء الوظيفي، والاستقرار المؤسَّسي. فالموظف الَّذي يشعر بالإنصاف والتقدير، ويثق بقيادته، يكُونُ أكثر استعدادًا للعطاء بلا حدود، والعمل بلا توقف، وأكثر استشعارًا لعظمة المسؤوليَّة وانتماءً لمؤسَّسته، لتصبحَ ملازمة له في كُلِّ أوقاته، بل حتَّى في إجازاته، ويخدم مؤسَّسته ويفخر بإنجازاتها في كُلِّ محفل وأمام كُلِّ موقف.

وعليه، فإنَّ إسقاط دَوْر القِيَم المؤسَّسيَّة كأداة ضبطيَّة وإطار تصحيحي للسلوك والممارسة المؤسَّسيَّة غير المنضبطة، تعزيزًا للنزاهة وتحقيقًا للشفافيَّة وضمانًا للإنتاجيَّة، يضعنا أمام قراءة لِمَا رصده تقرير الرقابة الماليَّة والإداريَّة للدولة في نسخته الخامسة لعام 2024 من تنوع في نوعيَّة الشكاوى والبلاغات الَّتي رصدها أو تلقاها الجهاز، والَّتي شملت تجاوزات إداريَّة وماليَّة، وتعطيل مصالح المواطنين، وتظلمات الموظفين، وعدم سلامة إسناد المناقصات، وسوء استغلال السُّلطة، والارتفاع الملحوظ في عدد الشكاوى والبلاغات خلال عام 2024 مقارنة بعام 2023. وهو ما يؤسِّس اليوم لمرحلة متقدمة من الوعي الرقابي الجمعي القائم على تأصيل وتأكيد الدَّوْر الوقائي للقِيَم، واستنطاقها واستنهاضها في سلوك الموظف لحماية المال العام والمقدرات الوطنيَّة العليا؛ بالإضافة إلى تعظيم مسار الضبطيَّة القِيَميَّة؛ باعتبارها إحدى الأدوات الناعمة في إدارة السلوك المؤسَّسي وإنتاجيَّة المؤسَّسات، من خلال دَوْرها في الإصلاح، والمراجعة، والتصحيح، بالإضافة إلى جاهزيَّتها في التطوير، والتحسين، والتجديد، وصناعة الفرص. وهو إطار عمل يؤسِّس لجوهر المبادئ والأخلاق واستنهاضها في حياة المؤسَّسات، لتمارس أدوارًا تحفيزيَّة داعمة لجودة الأداء وكفاءة الممارسة، وبما يرفع من عمليَّات الابتكار والتجديد، ويعزز من المسؤوليَّة، والإخلاص، والانتماء، والولاء المؤسَّسي، وفي الوقت نفسه معالجة الانحرافات الحاصلة في الممارسات غير المسؤولة، مثل المحاباة، والمحسوبيَّة، والتزوير، والغش، والتسيب، والرشاوى، والاختلاس، وإساءة استغلال النفوذ الوظيفي، والأنانيَّة، والأثرة، وتغليب المصلحة الذاتيَّة على المصالح العامَّة، وغياب الالتزام، وغيرها من السلوكيَّات الممقوتة الَّتي باتت تُمارس من قِبل البعض.

إنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي يَجِبُ استحضارها في سبيل تأطير هذه القِيَم ترسيخ مبدأ الثواب والعقاب، من خلال منظومة تقييم ومحاسبة واضحة، تكافئ الالتزام بالقِيَم والسلوك المهني، وتُساءل عن التقصير والتجاوز وفق معايير معلنة. إضافة إلى تطوير أنظمة تقييم الأداء الفردي والمؤسَّسي (إعادة حوكمة نظام إجادة وضبطه بمحكات واضحة وأدوات محكمة، وحلحلة الثغرات الحاصلة فيه وتصحيح مساره بما يُحقق العدالة ويَضْمن الكفاءة)، وربط الحوافز والترقيات بالتميُّز المهني والسلوكي في ظل وضوح مسار الوصف الوظيفي، وكفاءة وجاهزيَّة أدوات التقييم، وانتفاء المحسوبيَّات والمؤثرات الذاتيَّة، وعدالة توزيع المهام، مع مراجعة وتحديث اللوائح والأنظمة ذات العلاقة بالموارد البشريَّة، وضرورة استحضار قانون الوظيفة العامَّة بكُلِّ الأبعاد النفسيَّة والمهنيَّة والأدائيَّة في حياة الموظف، وتعظيم قِيمة الحوافز المنتجة. كما تبرز ضرورة إيجاد مرجعيَّة وطنيَّة عليا في تقييم الأداء الفردي والمؤسَّسي، وتأصيل القِيَم، من خلال برامج التوعية والتدريب، ومتابعة الالتزام، ومعالجة المخالفات الإداريَّة والماليَّة والقانونيَّة عَبْرَ تقسيم إداري يتبع جلالة السُّلطان، ويمتلك الصلاحيَّات الإداريَّة والماليَّة والتشريعيَّة الَّتي تحكم مساره. وهو أمر من شأنه أن يسهم في تبنِّي مسارات عمل وطنيَّة تعمل على تحويل قِيَم المؤسَّسة إلى مؤشرات أداء قابلة للقياس، ومعلنة لجميع العاملين، مع وضوح أدوات التقييم والمتابعة والرصد، والتأكيد على أن يكُونَ المنتج الوطني المتحقق من حوكمة منظومة القِيَم المؤسَّسيَّة هو صناعة القدوات المؤسَّسيَّة، وإبراز النماذج المضيئة، وتعزيز ثقافة القدوة والمثال.

أخيرًا، فإنَّ تأصيل القِيَم في ثقافة العمل المؤسَّسي خيار وطني تؤكده مستهدفات رؤية «عُمان 2040»، ويؤسِّس لمرحلة متقدِّمة في حوكمة القِيَم المؤسَّسيَّة، والانتقال بها إلى الفعل المؤسَّسي باعتبارها نهجًا أصيلًا، وثقافة عمل مؤسَّسيَّة، والتزامًا أخلاقيًّا، ومسؤوليَّة مشتركة، لتحقيق متطلبات الاستدامة، وبناء السمعة المؤسَّسيَّة، وتعزيز التنافسيَّة. وحين تُدمج القِيَم في القرار المؤسَّسي، وأنظمة العمل، والعلاقات، وبرامج التدريب، وآليَّات التقييم والمتابعة، فإنَّها تسهم في تحقيق الاستقرار الوظيفي، ورفع الكفاءة الأدائيَّة، وتعظيم القدوات والنماذج، وفتح آفاق أوسع لاستحضار مبادئ الإنسانيَّة في الوظيفة العامَّة، بما يُحقق للمؤسَّسة رسالتها، ويمنحها مكانتها المستحقة في المُجتمع.

د.رجب بن علي العويسي

التعليقات معطلة.