د. رجب بن علي العويسي
شكّل الحادي عشر من يناير من عام 2020، اليوم الذي أعلن فيه عن وفاة مولانا السلطان قابوس رحمه الله، فاجعة عظيمة ومصابا جللا وحزنا عميقا أصاب عمان بأكملها، يوم عايش فيه العمانيون الأزمة بكل ما تحويه الكلمة من معنى، تجسدت فيه كل معطياتها وارتبط التعامل معها بموجهات قبلية وبعدية وأثناء الأزمة نفسها، فمرارة الحزن التي تعتصر أبناء عمان وكل المحبين لجلالة السلطان قابوس في العالم أجمع، وحالة الفقد التي عاشها الجميع من هول الفاجعة وأثر الصاعقة، أكبر من وصفها في كلمات أو احتوائها في مقالات ومجلدات، لكنها عبرت عن قوة الأزمة التي مرت بها عمان، منذ نصف قرن من الزمان، فقد فاقت كل وصف، وتجاوزت لغة الأرقام والإحصائيات والتقديرات والتنبؤات والمؤشرات، بل تعدت كل الخطوات الحمراء لتصنيف الأزمة، فقد وصلت إلى أعلى سقف لها في الأثر النفسي والمعنوي والفكري الذي تركته في حياة الإنسان العماني والعالم أجمع، بما لا يدع مجالا للمقارنة بين ما حصل في عمان من أزمات مناخية وحالات مدارية طارئة، وبين الأزمة الكبرى والفقد الأعظم الذي سلب من العمانيين روحهم وحياتهم وأملهم وسندهم وشموخهم وعظمتهم وقوتهم ونهجهم، سيد عمان، حبيب الشعب، سلطان الإنسانية والسلام، قابوس الأمل والعطاء والنهضة، صاحب الرسالة، ورجل المواقف، ونهج القوة، وحنين الأمة، ومع اختلاف المواقف وتباعد الأزمنة فإن الذكرى تقربنا إلى ما عاشه الصحابة رضوان الله عليهم بوفاة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام، وهم أهل الطهر والعفاف والصفاء والنقاء، من يتنزل الوحي على رسول الله وهو بين ظهرانيهم، ورغم هول الفاجعة فلقد عمهم الحزن ونزل عليهم الخبر كالصاعقة، حتى أصبح الناس في حيرة من أمرهم بين مصدق وآخر منتظر، مع التقائهم على حقيقة واحدة أن الموت والحياة من سنن الله في الخلق وحكمه في البرية، وهكذا عاش أبناء وطني حزنا عميقا وشعورا استثنائيا، حتى ضاقت عليهم الأرض رغم وسعها من هول الفاجعة، وهل من أزمة أعظم على أبناء عمان من هذه الأزمة؟ وهل من حالة طارئة عاشها العمانيون أشد أثرا من رحيل جلالة السلطان قابوس؟
لم يكن رحيل قابوس السلام، أزمة لعمان وحدها، أو يعيشها العمانيون وحدهم، بل هي كارثة للأمة، وحدث جلل أصاب الإنسانية جمعاء، فإن السيرة العطرة والذكر الحسن والحب العميق والعشق الأبدي الذي تركه جلالة السلطان قابوس أبلغ أثرا وأصدق نهجا وأعظم وفاء، وحيث كان ذلك فقد امتزجت برحيله مشاعر الحب والحنين، والفقد والشوق، وعظمة الموقف وصعوبة التكيف مع الحدث والقناعة به، وهم يعيشون هول الفاجعة لم ينسيهم ذلك وصية سلطانهم الراحل وما حمله من أمل للأمة العمانية منذ خمسة عقود وهي تعيش نجاحات مشهودة وإنجازات باهرة وسيرة محمودة، فالأمل الذي جاء به سلطان عمان الراحل ما زال يغذي أرواحهم بنور اليقين والثقة والصبر والتضحية، وأودع فيهم قوة الإرادة وعزيمة المواجهة والإصرار والتحدي وإنتاج القوة، وما زال يصنع فيهم روح العطاء، فإذا كان قابوس السلام قد رحل، فإن عمان وهي روح قابوس وحياته، وصحته ومرضه، وعطاؤه وإنجازه ونهضته ما زالت باقية، فهي تجسد قابوس في شخصه وما سعى إليه من أجل أن يرى عمان في أفضل حال على الدوام، ومع مرارة الأسى والحزن إلا أن العمانيين كانوا أقوى من أن تسلب منهم أحداث الأيام عُمان، واضعين وصية السلطان الراحل أمانة في أعانقهم، ومنهجا يرتسمون خطاه إلى يوم الدين.
وبالتالي فإن إسقاط أحداث هذه الفاجعة المؤلمة على النهج الوطني العماني في إدارة الأزمات، يؤسس لهذا التكامل والانسجام بين هذه المرتكزات الواردة في المادة (6) من النظام الأساسي للدولة، وهي مجلس الدفاع، ومجلس العائلة المالكة، ورسالة السلطان قابوس إلى العائلة المالكة وأبناء عمان، ومجلس عمان، وتنصيب جلالة السلطان هيثم بن طارق سلطانا لعمان وأداء القسم أمام مجلس الدفاع والعائلة وعمان معا، والكلمة السامية لجلالته التي ألقاها والتي حددت النهج القادم في السير على خطى جلالة السلطان الراحل، في ظل ما سبقها من معطيات التعامل مع الأزمة المتمثلة في تعميق منحى سرعة الاستجابة وفورية الرصد، وبناء منظومة تفاعلية قائمة على كفاءة الأداء، واستراتيجية القرار، ومرجعية الأداء، وفورية التنفيذ، ودقة التوقيت، والحسم الفوري للأمور، فلقد وضع عمان في مسار بناء الأمل وإنتاج القوة ونهضة الإرادة، ولم يعرف الفراغ في حياة السلطان الراحل أيه مساحة، لذلك لم يترك للفراغ أي حضور بعد وفاته، في إشارة إلى التقليل ما أمكن من المخاطر المتوقعة مما يمثله الفراغ السياسي من مخاطر وكوارث على اقتصاد البلد وإنسانه واستقراره، في ظل تجهيزات مسبقة وتخطيط مستمر، وتوفير أدوات المتابعة والرصد والتقييم والإعلام والإدارة القادرة على استثمار الفرص، مستفيدة من الأحداث السابقة التي مرت بها السلطنة والتوجه نحو الابتكارية في تكوين بدائل جديدة للمعالجة مع المحافظة على النهج الذي أراده جلالته ـ رحمه الله ـ في تأبينه ونقل جثمانه الطاهر من بيت البركة العامر إلى جامع السلطان قابوس الأكبر للصلاة عليه ثم إلى مقبرة العائلة المالكة في بوشر، والجنازة العسكرية المصغرة التي أراد جلالته ـ رحمه الله ـ أن يقوم عليها مجلس الدفاع، في ظل تقييم مستمر للإمكانات وتحليل دقيق للموارد وتقييم للبيئة الداخلية والخارجية، والظروف الاستثنائية التي تعيشها البلاد، ومصادر القوة والتهديدات والتحديات المرتبطة بمفهوم الكفاءة في إدارة المخاطر، وتفعيل الاستشعار عن بعد والحدس بالتوقعات وقراءة ما وراء الأحداث، بالإضافة إلى تعميق الاستفادة من التقنيات الحديثة والبدائل التطويرية في إدارة الحالة الوطنية، واستخدام الفضاءات المفتوحة في تهيئة الرأي العام وتقبله للأزمة وتعاطيه معها فالإعلان عن وفاة جلالة السلطان قابوس في وقت متأخر من الليل قبيل الساعة الرابعة، لسد كل الاحتمالات السلبية، وإفساح المجال لتنفيذ خطوات العمل وفق المرسوم لها دون تقصير أو شطط أو تهور أو اندفاع، وتوجيه التعليمات لقوات السلطان المسلحة والأجهزة العسكرية والأمنية بالطوارئ وتحديد مواقعهم دون الإفصاح عن طبيعة الحالة والمهمة والغاية من وجودهم في هذا الموقف، ترصد جميعها مرحلة اكتمال الجهود وتفعيل جميع المعطيات وخطوط التأثير وقنوات العمل المعنية بإدارة الأزمة الحاصلة وفق منهجية تتسم بالوعي والمهنية والسرية والكفاءة والمصداقية والحزم في سبيل تمكين مجلس الدفاع من القيام بمسؤولياته في الخطوات القادمة للتعامل مع الأزمة لحين الوصول إلى ذروة التعامل مع التحدي ومعالجة الموقف بكل كفاءة وفاعلية وثقة ومهنية، وفي أقل من سبع ساعات منذ الإعلان عن وفاة جلالة السلطان قابوس ولحين مواراة جثمانه الطاهر ـ عليه رحمة الله ورضوانه ـ كان كل شيء يمضي في اطمئنان، ويسعى إلى استقرار في سهولة ويسر، وحكمة واقتدار، وسلامة نهج ومسار، وسلاسة خطة ومرونة أدوات وأريحية تواصل مع الفاعلين الرئيسيين في إدارة الأزمة ومعالجة الحالة القادمة، وكانت خطوات ذلك محسومة ومضبوطة ومحددة، ترصد الواقع العماني منذ الدقائق الأولى لوفاة السلطان قابوس وتؤسس لسيناريوهات العمل القادمة بكل هدوء وضبطية، بالشكل الذي يقلل إلى أقصى حد ممكن من أي تأثيرات سلبية على حياة الوطن والمواطن، وبشكل آخر يقلل من أي تأثيرات سلبية على الاستقرار الاقتصادي والاستدامة المالية، والتحويلات الاستثمارية الخارجية والبورصة، وسد أي مبررات لتأثرها وبما لا يؤثر على ثقة المستثمرين والشركات أو يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط والذهب، فالنُّهج كانت واضحة، والأدوات معلومة، والطريقة مفهومة لذوي الاختصاص ومحكومة، فقد مضت في استكمال خطتها ونهجها لتصل إلى استقرار، والمرجعية الأساسية للعمل، ووجود إدارة قوية لتنفيذ المسار، والقرار الاستراتيجي والحضور النوعي للمؤسسة العسكرية الأمنية، كل ذلك أعطى قوة في كفاءة العمليات المستخدمة في إدارة الأزمة الحاصلة، ومع ذلك بقيت بحاجة إلى مكونات أخرى لنجاحها، وهي الرهان على المواطن العماني ذاته، في وعيه بالمسؤولية واستشعاره عمان في كل حركاته وسكناته وتصرفاته وتعبيراته وتغريداته ووضعها في أولوية العمل، وإدراك طبيعة المرحلة الحرجة التي تعيشها والتحولات الحاصلة في المنطقة والعالم، وسرعة الاستجابة وكفاءة القرار وجرأته والجاهزية التعزيزية للقوات المسلحة وشرطة عمان السلطانية في تأمين المواقع والانتشار المخطط لها، وتعزيز مسار الإيجابية والتفاعل الحذر مع كل الخطوط الإعلامية والتواصلية المؤثرة عبر منصات التواصل الاجتماعي والواتس أب في وقت أصبحت فيه تناقل المعلومة يمر بسرعة الصوت ويدخل كل بيت بدون إذن، فقد أحكمت هذه المنصات، وأغلقت أبواب الفتنة والإشاعة، وعززت مساحة العزم والإرادة في قبول التحدي القادم والاعتراف به ووضعه في خريطة الطريق، والتعامل الواعي الحذر معه بناء على قراءة دقيقة لكل المعطيات، وفهم عميق لكل السيناريوهات القادمة، فتعاملت مع الأزمة بوضوح وجدية، ومصداقية ومهنية لذلك فإن استرجاع كل القراءات السابقة حول دور العمانيين في إدارة الأزمات والحالات المدارية التي حصلت في بلادهم، عكست النهج الصحيح الذي رسمته عمان في إدارة الأزمة الكبرى والأعظم التي مرت بها برحيل سلطانها المعظم.
ولما كان مجلس الدفاع مرتكز القيادة، ومحور التحكم في تنفيذ سيناريوهات العمل القادمة، فقد أبلى حسنا وصنع استحقاقا لن ينساه العمانيون له، في الاستفادة القصوى من كل الفرص المتاحة، ودعوته لمجلس العائلة المالكة الكريمة للانعقاد، والمرونة التي تعاملت بها العائلة المالكة الكريمة مع دعوة مجلس الدفاع، بوعي وبصيرة، بما ضمن نجاح إدارة الأزمة والتعامل مع مجريات الأمور وفق قواعد سادها التراضي والمسؤولية وحب عمان، فبعد فتح الرسالة أمام الأسرة الحاكمة وبحضور من أشارت إليهم المادة (6) من النظام الأساسي، للدولة، ثم دعوة مجلس عمان لتنصيب السلطان الجديد لعمان، كل تلك المحطات الحاسمة والمصيرية في تقرير شكل عمان القادم، قد وضع الجميع أمام مسؤولية الاتجاه بالحسم في إدارة الأزمة، فكان ما قدمه مجلس الدفاع من مسار نوعي في القيادة المتوازنة والإدارة الفاعلة والتخطيط السليم والتنفيذ الأمين ورسم سيناريوهات العمل ورفع مستوى الجاهزية وإعلان الطوارئ وإدارة العمليات الداخلية والتكتيكية في ساعات بسيطة من ليلة السبت وإلى الظهيرة، يؤكد الروح الوطنية العالية المخلصة التي أدارت القرار الاستراتيجي في عظمته وهيبته وكفاءته وحسمه وضبطه وربطه حفاظا على عمان وأبنائها، وتأكيدا على النهج القابوسي في تعزيز وحدة الوطن وترابه والولاء للوطن والسلطان. لقد استكملت إدارة الأزمة مراحلها وجاهزيتها واستعداداتها لقبول الأمر وتقبله والتوجيه بالعمل بالتعليميات والأوامر الصادرة من مجلس الدفاع، بشأن كل مقتضيات الموقف وتفاصيله الدقيقة وتحركات الأفراد لأخذ مواقعهم، إنها الحكمة العمانية في إدارة الأزمات والتعاطي الواعي مع المواقف، وهو أمر يعيد إلى الأذهان رسم صورة مكبرة للمواقف البطولية لقوات السلطان المسلحة وشرطة عمان السلطانية وأجهزة الأمن الأخرى في التعاطي مع الأزمات التي مرت بها عمان وإدارتها الفاعلة لكل مقتضيات الخطة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة والاستراتيجية الوطنية للأزمات، فلم يكن هذا المسار وليد الصدفة، بل ممارسة أصيلة ارتبطت بخصوصية الإنسان العماني وتفرده، فمع الفارق بين هذا الحدث وغيره من الأحداث والأزمات التي حلت بعمان، إلا أن رابط التشابه بينها وخيوط الالتقاء ومشتركات العمل كبيرة، ومسار الاتقاء يكمن في ما اتسمت به من حكمة وهدوء ووضوح سيناريوهات العمل وحكمة القرار واستراتيجية الأداء وحضور أبناء قوات السلطان المسلحة والأجهزة الأمنية والعسكرية في عمق الحدث، فحب عمان الرابطة الكبرى التي جمعت الكل وأعطت الحافز وأعلت من جاهزية الضمير.
لقد انتهت سيناريوهات الأزمة وتم التعامل معها بحصافة فكر، وعمق تجربة، وقوة مبدأ وحس مواطن وروح وطن، لتستمر مسيرة العطاء في هذا الوطن الغالي، رغم أن تأثيراتها لن تسكتها الأيام أو تخمد ثورانها السنون والأزمان، أو تخفف جمرة لهيبها الأشواق والأحزان التي تكوي قلوب العمانيين في فقيدة الأمة العمانية والعالم، لقد أعطت عمان العالم دروسا حصيفة في بناء الأوطان وكيفية إدارة الأزمات المصيرية التي تواجهها المجتمعات عند حصول فراغ سياسي فيها، إدارة قائمة على وضوح المبادئ، وكفاءة أدوات العمل، ورؤية الإنجاز القادمة وجاهزية سيناريوهات وخطط الإدارة، وحكمة التعامل معها ونهج المرونة ومبدأ الضبط والربط، واستقراء الواقع المحيط بعمان والاحتمالات الواردة في التعامل مع سيناريو المفاجأة بالإعلان عن وفاة السلطان الراحل رسميا، حدث ذلك كله بكل سلاسة وسهولة ويسر، وبأداء مريح، بلا صخب ولا تذمر ولا تنمر ولا ضجيج، لقد أدارت عمان الأزمة، التي عايشتها وعانتها بوفاة فقيدها الراحل، عن كفاءة واقتدار، ورؤية واضحة، وبصيرة نافذة، رسمت خلالها نضوج الفكر، وقيمة الوعي وحس المسؤولية، وأثبت العمانيون فيها وحدة الصف وقوة الهدف والمصير، وسلامة النهج، ورصانة الفكر وسلاسة الأداء ومرجعية القرار، فضربت بذلك مثلا للعالمين في التعاطي الواعي مع الأزمات وحسن إدارتها، عززت من لحمتهم الوطنية وتجاوبهم المستمر مع القيادة الحكيمة الراعية لهم، وإدراكهم الموقع الذي تحتله عمان في عيون العالم، والأنظار التي تتجه إلى صنيعهم وحكمتهم واتزانهم وعبقريتهم التي رسخها قابوس الراحل، وأثبت العمانيون خلالها أن المحن مهما كبرت لن تفت من عضدهم أو تثني عزمهم عن مواصلة العطاء، أو تمزق وحدتهم، أو تخفف من حبهم لوطنهم، بل تزيدهم هذه الأحداث قوة وصلابة، وتكاتفا وانسجاما، وتعايشا وتناغما، والتفافا نحو قيادتهم الحكيمة وإخلاصا لوطنهم العزيز، وها هم مع تجليات هذا الحدث الجلل والمصاب العظيم الذي سلبهم حبهم وحياتهم وعشقهم وسيدهم، كانوا صفا واحدا في تأسيس ملحمة الوفاء لجلالة السلطان الراحل والاعتراف بما قدمه، وأن حبه إنما يكمن في المحافظة على ما سعى إليه من تحقيق رؤيته في أن يرى عمان في تطور وازدهار وقوة ومنعة، وأن يرى الإنسان العماني دوما رجل السلام والإخاء ومنهل القيم والإخلاص ومنبع السمو والذوق والوفاء، فوضعوا هذه الرسالة في أعناقهم، وحملوا الأمانة على أكتافهم معاهدين سلطانهم الجديد ومبايعينه على السمع والطاعة في المنشط والمكره وفي السلم والحرب، ولسان حالهم يقول: “ماضون بعدك لا شقاق ولا فتن”.
لقد رحل جلالة السلطان قابوس عن دنيانا إلى جوار ربه، ورغم صعوبة الموقف ومساحة الألم والفقد التي تركها رحيله وقوة الفاجعة وهول الأمر التي صنعه غيابه عن أعين أبناء عمان وترقبهم لإطلالته السامية عليه ـ رحمة الله ـ ليسدل الستار على حياة سلطانهم وتنتهي مرحلة من التأريخ العماني، ويترجل الفارس عن جواده، وتنكسر خواطرهم برحيله إلا أنهم أدركوا موقع عمان في حياة جلالة السلطان، فزادهم ذلك سيرا على نهجه وعملا بتوجيهاته التي ستظل فكرا متقدا للأجيال القادمة، وإرثا حضاريا لسبر أعماق النهضة، ومددا لبناء الأمل وإعادة إنتاج القوة، لتظل مآثر جلالة السلطان قابوس قصة وطن لن تأفل، وسيظل السلطان قابوس نبض القلب وسر الأمل، وستظل مواقفه المشرّفة دروسا للعالم أجمع، ورغم قساوة ألم الفقد تبقى إرادة العمانيين، نموذجا أصيلا في مواجهة التحديات والتعامل مع أخلاق الأزمات، ليزيد ذلك من لحمتهم الاجتماعية وتعاطفهم وتعاونهم في خلق سياج وطني مشهود مع قيادتهم الحكيمة وسلطانهم الجديد لتكون لهم سنة محمودة وميزة معهودة كما فعلوا مع سلطانهم الراحل، وتصبح شاهد إثبات في حجم التغيير النوعي الذي صنعته هذه الأزمات في إنسان هذا الوطن المعطاء، والجاهزية التي أثبتها في بناء أرصدة نجاحات قادمة حفاظا على الوعد وسيرا على العهد وصونا لعمان.
عليه لم تكن الخبرة العمانية في إدارة الأزمات مجرد تجربة وقتية، بل ممارسة أصيلة ومنهجية عمل واضحة وأداء استراتيجي رسم إطارا واضحا للعمل من أجل عمان: الدولة والإنسان أمنه واستقراره، وهي استمرارا لعزيمة الإنسان العماني في أصالته وعراقته وإنجازاته وحضارته التي ظلت ماثلة للتأريخ، فلقد خبر العمانيون الأزمات وعايشوها وواجهوها منذ بداية نهضتهم، وتحملوا الكثير من المصاعب والتضحيات في سبيل بناء دولتهم يقودهم في ذلك القائد الراحل ـ رحمة الله عليه. إنهم أمة معطاءة، تمتلك معايير الإدارة، وأركان القيادة، ومقومات النهضة، وفنون التعاطي مع الأزمات، إنهم يمتلكون الصبر والحكمة والقيم والأخلاق والمبادئ والثقة في قيادتهم والإرادة والعزيمة والأمل والإيجابية، لقد اختبرتهم الأيام لكنهم مع كل ذلك كانوا أمة واحدة وشعبا متعاونا فما زادهم ذلك إلا التفافا نحو قيادتهم وتعاونا في بناء مجتمعهم وتكاملا في نهضة دولتهم، فأنتجت إدارتهم لهذه الأزمة، القوة وروح التسامي فوق الخلاف، وتقدير العالم وانبهاره بما صنعه العمانيون في حب السلطان قابوس وحب بلدهم عُمان، والروح الإيمانية التي غرسها فيهم السلطان الراحل، ويبقى الإنسان العماني الهاجس الأكبر في الاستفادة من هذه المواقف والمطبات الحاصلة في إعادة إنتاج الأمل القادم في نهضة عمان المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ فيتعاون مع قيادته، ويجسد قيمه وأخلاقه وسلامه وولاءه وانتماءه وإخلاصه لعمان وقائدها المفدى ـ حفظه الله ورعاه. فلروحك الطاهرة مولاي جلالة السلطان قابوس بن سعيد الرحمة والرضوان والروح والريحان.. إنه قريب مجيب.