مقالات

في العمق / مؤشرات الطلاق : صرخة في وجه الحب

د. رجب بن علي العويسي

تشير المؤشرات الإحصائية للمركز الوطني للإحصاء والمعلومات إلى ارتفاع عدد وثائق الطلاق في السلطنة بنسبة (3.2%) في عام 2016 مقارنة بما كانت عليه في عام 2015، حيث تركز حوالي (24.8%) في محافظة مسقط، تليها محافظة شمال الباطنة (18%)، وتزايد اجمالي شهادات الطلاق الصادرة للعمانيين من دوائر الكاتب بالعدل بوزارة العدل في مختلف المحافظات في الأعوام 2014-2016، حيث بلغت في عام 2014 (3502) حصلت فيها المحافظات التالية على أكبر نسبة في عدد حالات الطلاق وهي : مسقط(716)، شمال الباطنة(633)، وظفار (514)، في حين بلغت إجمالي شهادات الطلاق في عام 2015( 3443) أي بتراجع بلغ ( 59) حالة طلاق عن العام السابق له فقط مع احتفاظ المحافظات الثلاث نفسها بمستوى واضح في الزيادة حيث بلغت فيه على التوالي أكبر نسبة في عدد حالات الطلاق، وهي: مسقط (809) حالات ، وشمال الباطنة (648) حالة طلاق ثم تليها محافظة ظفار ( 482) حالة طلاق ، ليعاود الارتفاع مرة أخرى في عام 2016م حيث بلغت إجمالي شهادات الطلاق للعمانيين ( 3568) أي بزيادة بلغت (125) حالة طلاق عن العام السابق له، حيث شكّلت فيه المحافظات الثلاث السابقة على التوالي أكبر نسبة في عدد حالات الطلاق ، وهي: مسقط (851) بزيادة بلغت ( 42 ) حالة، وشمال الباطنة (667) بزيادة بلغت ( 19 ) حالة طلاق ثم تليها محافظة ظفار(539) بزيادة بلغت ( 57 ) حالة طلاق.
وعليه تطرح هذه المؤشرات جملة من النقاشات التي تلقي على المجتمع والاسرة والأزواج والمؤسسات مسؤولية البحث عن استراتيجيات عمل تضمن الحد من التأثيرات السلبية للطلاق على كيان الاسرة العمانية وأمنها واستقرارها، وهي استراتيجيات ينبغي ان تستقي موجهات عملها من مبادى الشريعة وقيم الاسلام الداعمة للتآلف والحب، والتزام الضوابط التي وضعها لبناء أسرة قادرة على الاستمرارية، والخصوصية الثقافية والاجتماعية لهذه المحافظات الثلاث التي تشهد تزايدا في نسب الطلاق، مستفيدة من الفرص الحياتية المعيشية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية المقدمة للمواطن، في كل ما يقوي بنيان الأسرة ويضمن ريادتها في تحقيق مسؤولياتها، وإيجاد تحول في البناء الفكري والأخلاقي للأجيال وتأسيسهم على القيم المعززة لمنطق الزواجي السليم، وتأطير مفاهيم الثقافة الاسرية في المناهج الدراسية بشكل يضمن قدرة الأجيال على استيعابها وتمثلها باعتبارها عقيدة وسلوك إنساني وفطرة بشرية راقية يجب المحافظة عليها والاستثمار فيها.
ولعل المتتبع لمؤشرات الطلاق يجد بأن ما ينقص القراءة المعمقة والشاملة للملف هو عدم وجود تصنيف مؤسسي واضح للمسببات والعوامل التي تقف خلفها، والمهددات التي باتت تسهم في زيادة نسب الطلاق في المجتمع العُماني كمنطلق يمكن أن تستند إليه استراتيجيات المعالجة القادمة، – لما قد يتصوره البعض بأنه يمس خصوصية المجتمع والأسرة ويتيح المجال لتدخلات أخرى غير مرغوبة- ، لذلك تبقى مسألة البحث فيها مجرد افتراضات شخصية واجتهادات فردية تفتقر للتكامل والتفعيل، وهو ما قد يؤثر في جهد المؤسسات المعنية التي تحاول أن تجد بصيص علاج في ظل حالة الضبابية الحاصلة في الموضوع، فإن مسألة التكهن بالأسباب مدخل لبقائها في ارتفاع لعدم وضوح مقدار تأثيرها.
ومع الإشارة الى الموجهات التي اتخذتها الجهات المعنية عبر لجان التوفيق والمصالحة في وزارة العدل او البرامج التثقيفية والتوعوية التي تقدمها وزارة التنمية الاجتماعية عبر المديرية العامة للتنمية الاسرية، أو جهود التوعية التعليمية الدينية والقانونية والقضائية وغيرها، فإن حالات الطلاق المبكر والزيجات التي لا تستمر طويلا تشكل هاجسا آخر مؤثرا على البناء الأسري والمجتمعي، ومصدر قلق يحمل في ذاته منغصات الثقة الزوجية وزيادة التباعد في الأهداف والآليات والأطر الفكرية والثقافية والتواصلية بين الزوجين.
وبالتالي أهمية بناء أُطر وطنية واضحة تضع المجتمع والمؤسسات والأسر والأزواج أمام مسؤولية قراءة هذه الأسباب ودراستها والتعمق فيها وتقنينها بالشكل الذي يضمن معرفة موقعها في تشكيل خارطة الطلاق في السلطنة، بحيث تستعين بها المؤسسات التشريعية والضبطية والإعلامية والدينية والمعنية بالتنمية الأسرية في بناء إطار وطني متكامل (وقائي وإثرائي وعلاجي ) يستهدف توجيه الأنظار إلى بناء الأسرة وتكاملها وترابطها وتقليل حالة الفاقد الناتج عن مسببات الطلاق والمهددات المرتبطة به، وتعزيز الحوار الأسري وبناء أرضياته وتنفيذ برامج تخصصية مستديمة في الإرشاد الزواجي والمسؤولية المشتركة بين الزوجين، وترقية ثقافة الشباب المقبلين على الزواج، وإجراء المسوحات ودراسات الحالة الزواجية من واقع قضايا المحاكم والادعاء العام ، وتبني مقاييس وطنية تدعم الاستقرار الزواجي، وتوفير الضمانات المجتمعية الداعمة في مواجهة الاسباب المعيشية والاقتصادية المؤدية للطلاق، بحيث تصبح عمليات التشخيص الفعلي والتأطير المنهجي لها، المحك الذي تنطلق منه كل غايات الاصلاح والتوفيق والمصالحة بين الزوجين.
من هنا تأتي أهمية تعزيز كفاءة وفاعلية البرامج التدريبية والتوعوية والتثقيفية التي تحتوي السلوك وتنقل الفرد فيه إلى مرحلة التأثير الإيجابي وقبول ذاته والآخر وتقبل التوجيهات، بما يضمن انتزاع حاجز الرهبة والخوف المتولد لدى الاسرة( أحد الزوجين) في الإفصاح عن واقعه والمهددات التي يتعرض لها، ونوعيه التوجيه وطريقته وأسلوبه ومساحات الحوار والتواصل وتمكين العلاقات الاجتماعية من اعادة قراءة السلوك في ظل تعظيم قيمة الحياة الزوجية.
إن الطلاق رغم تعدد أسبابه وتنوع أشكاله، يبقى صرخة في وجه الحب، الذي علينا جميعا أن نبحث عنه في إنسان هذا الوطن وطريقتنا في احتوائه وإعادة هندسة بنائه وترقية ذوقه وتأطير منهجياته في الحياة، ونقل محور التغيير في ذاته وابرازه في مبادئه وقيمه ومسارات الحب التي يصنعها في ظلال الزوجية، فإننا في الوقت نفسه بحاجة الى مبادرات وطنية طموحة،وجهدا مؤسسيا استثنائيا يتسم بالتكامل والتناغم والابتكارية والاستدامة، يرتقي بأنموذج الانسان العماني الواعي ومشروعه الحضاري، فيعيش حياته الزوجية بهويته الدينية وخصوصية مبادئه، ويسعد عالمه الكوني بأروع نماذج الوفاء والإخلاص لأسرته ، ليثبت للعالم مواقفه واسهاماته من أجل بناء الإنسان وسعادة الأوطان.