في الغياب!

6

ما الغياب؟ وكيف هو الغياب عند شعراء الرومانتيكية وعند الفلاسفة والمفكرين والمتصوفين؟ كيف اختبروه، كيف شكّلوه، وكيف وقفوا أمام إشكاليته وتعايشوا معها، ووقفوا أمام أسئلته وأجابوا عنها؟

 

إن أكثر من لمس معاناة الإنسان في حضرة الغياب، كان مشرّح النفس البشرية، الروسي دوستويفسكي، وحين قال بحزن: «تبقى يتيماً في غياب من تحب، حتى ولو عانقك العالم بأسره..!»، ليرد عليه وليام شكسبير «إن من نحبهم بشدة، هم تحديداً الذين يختارهم الغياب بدقّة».

 

والغياب لا يختار أحداً بذاته، لكننا كبشر نحصر العالم في ذواتنا، ولا نرى إلا من خلال مشاعرنا وأهوائنا، نتصور أن الغياب قد اختار من نحبهم تحديداً ليبعدهم عنا، على الرغم من أنه في اللحظة ذاتها، يتوارى في طرقات الغياب آلاف البشر، وآلاف الأحباب، مبتعدين عن أحبتهم، عن أسرهم، وأمهاتهم، وحبيباتهم، وبلدانهم.. فالحياة في سيرورتها كلها منذ بدء الخلق، وهي قائمة ومستمرة على الثنائيات في تمامها وتكاملها وتصادمها وصراعاتها، لكن ما يخصنا هو ما نراه فقط، وما نحسب الكون قائماً عليه، كما عبّر عنه بدقه شكسبير!

 

في كتابه «في حضرة الغياب»، يتعامل محمود درويش مع الغياب، ليس فقط كفراغ أو فقدان، بل كواقع له مكانته الخاصة، فالغياب وطن، والغياب هوية، والغياب حضور.

 

يقول عن نفسه هو الغائب المنفي «غائب، آتي إلى بيت الغياب»، هنا الغياب ليس مُجرَّد فقدان، بل هو شكل من الوجود، وحياة في المنافي، وهيمنة الذكرى على الحاضر. ومن هذا المنطق، يصبح الغياب مدرسةً للكتابة، للهوية، وللمقاومة (الغياب علّمني درسه)، كما يقول.

 

تولستوي، ومن خلال يومياته ورسائله، يعترف بالوحدة والعزلة كجزء من حياته، فنراه يكتب قائلاً: (أنا الآن وحيد مرة أخرى، وحدي حرفياً – لا أذهب إلى أي مكان، ولا أستقبل أحداً). والغياب هنا ليس غياباً مرتبطاً بالمنفى أو الوطن بل غياباً داخلياً: غياب الراحة، والسكون، غياب يمثل انسحاباً من الزحام الخارجي، ليلتقط المبدع أو الإنسان الساعي لذاته صوته الداخلي، ليواجه فراغه، ليكتشف فيه أصالته. غيابٌ ليس هزيمة أو معاناة بالضرورة، بل فضاء للمعرفة.

التعليقات معطلة.