في حضن الموت: أم وطفلها من الكوت… شاهدان على احتراق وطنٍ خذله الجميع

31

 

 

في زاوية من زوايا العراق المنكوب، ومن قلب مدينة الكوت التي لم تعرف الفرح إلا على استحياء، كُتبت واحدة من أبشع مآسي هذا البلد، مشهد لو رآه الروائي البريطاني جورج أورويل، لوقف صامتًا مذهولًا، عاجزًا عن كتابة سطر واحد أمام الحقيقة التي تتفوق على أي خيال، وتنسف كل تصورات الأدب الأسود عن الجحيم الأرضي.

امرأة عراقية بسيطة، أم لطفلٍ واحد، خرجت من بيتها الخانق بفعل انقطاع الكهرباء المزمن، بحثًا عن هواء بارد لطفلها، عن لحظة راحة، عن فسحة حياة… ولم تكن تدري أنها في طريقها إلى الموت، بل إلى مشهد سيُخلّد كوصمة على جبين دولة لا تعرف معنى الكرامة ولا أدنى درجات الإنسانية.

خرجت، وبعد أقل من ساعة، رنّ هاتف زوجها… على الطرف الآخر كانت هي، تصرخ، تختنق، تتوسل، تقول آخر ما يمكن أن تقوله أم في لحظتها الأخيرة: “أبريني الذمة… لقد مات ولدك الوحيد.” ثم انقطع الصوت، واشتعل الحريق، وابتلع اللهيب الأرواح كما تبتلع هذه الدولة حقوق الناس، وكراماتهم، وأحلامهم.

وحين هدأ الجمر، لم يكن المشهد بحاجة إلى وصف. الأم جاثمة، متفحمة، تحتضن طفلها كأنها ما زالت تحاول أن تحميه من كل ما لم تستطع أن تمنعه عنه: الفقر، الإهمال، وانعدام دولة اسمها العراق.

هذه ليست “حادثة”. هذه صورة عارية لحقيقة بلدٍ يعيش على حافة الجحيم منذ عقود، بلد تحكمه أحزاب لا تسمع إلا صدى مصالحها، ومسؤولون يتاجرون بأرواح الناس، ويغسلون أيديهم من الدم كلما اشتعلت مأساة.

في حضنها مات، وفي حضنها تفحمت، لأنها لم تجد حضنًا اسمه “دولة”، لم تجد قانونًا يحاسب، أو مؤسسات تحمي، أو كهرباء تحفظ الحياة. هي لم تُقتل بالنار فقط، بل قُتلت بالكذب الذي نعيش فيه، قُتلت بالصفقات، بالمحاصصة، بالبؤس المزمن الذي يعيشه العراقيون كل يوم، قُتلت بقانون صامت، بضمير غائب، بنظام فاسد.

وفي خضم هذا المشهد الجارح، لا يمكن أن ننسى أن أكثر من مئة قتيل وجريح سقطوا في تلك اللحظة، لكلٍّ منهم قصة لا تقل وجعًا، ولا تقل ظلمًا. أطفال كانوا يتسوقون، نساء كن يبحثن عن حاجات العيد، شباب يعملون داخل المول لتأمين لقمة عيش، انتهت حياتهم بلحظة إهمال. تلك الأرواح أيضاً، هي عناوين للمأساة، لا يجوز أن تُختزل في مشهد واحد، مهما بلغ من رمزية.

في العراق، لا يموت الناس بفعل القدر، بل بفعل الإهمال الذي صار هوية، وبفعل دولة تسترخي على جثث أبنائها، ثم تصدر بيان عزاء وتحرك “لجنة تحقيق”. وكأن لجان التحقيق وحدها كافية لإخماد نيران الكوت، أو سبايكر، أو العبّارة، أو مستشفى الحسين، أو الكرادة… وما أكثرها.

في كل مأساة، نُعيد مشهد الجنازات، ونُعيد كلمات الحزن، ثم ننام بانتظار كارثة جديدة. فهل هذا وطن، أم مجرد مسرح مفتوح للموت المجاني؟

نعم، هذه الأم شهيدة… لكنها شهيدة دولة خذلتها، شهيدة طبقة سياسية لا ترى في المواطن سوى رقماً انتخابياً، ولا في الوطن سوى مصرف مفتوح للنهب.

 

ما جرى في مول الكوت ليس مجرد حريق، بل وصمة عار على نظامٍ سياسيٍ فاشل، قتل الأم وطفلها وبقية الضحايا ببطء، ثم أحرقهم دفعة واحدة. حين تصبح الأسواق مقابر، والمستشفيات محارق، والمدارس بؤراً للفساد، فلا بد أن يُقال علنًا: من يحكم العراق اليوم، يحكمه بلا ضمير. كل من صمت عن هذه الفاجعة شريك في الجريمة. وكل مسؤول لم يستقل بعد، هو شريك في الموت والحريق القادم .

التعليقات معطلة.