في كماشة الجغرافيا: العرب بين مطرقة إيران وسندان إسرائيل… وصمت واشنطن

18

 

 

لو كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضليعًا بالأمثال العراقية، لربما لجأ للمثل القائل: “شلون بعركة الخطار والجار؟ الاثنين أعزاز… وحجزهم بديه!” في إشارة إلى الحيرة العميقة حين يشتبك حليفان مقربان، ويصعب الانحياز لأحدهما دون أن تدفع الثمن.

هذا هو تمامًا حال واشنطن، التي تواجه اليوم تصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، وهما ركيزتان متناقضتان في معادلة واحدة حرصت الولايات المتحدة على تثبيتها منذ عقود، كجزء من هندستها السياسية للأمن الإقليمي.

ترامب، العائد إلى المشهد بثقة وخطاب تصعيدي، لا يجهل أن أي خلل في هذا التوازن قد يقلب الطاولة. لا يريد خسارة إسرائيل، ولا كسر إيران، ولا حربًا تنفلت من عقالها فتربك حساباته الاقتصادية والتحالفية الكبرى. لكنه يدرك أيضًا أن استمرار إيران في طريقها النووي يُقوّض أمن إسرائيل ويضع الإدارة الأميركية أمام خيارين أحلاهما مرّ: القبول بإيران نووية، أو المغامرة بمواجهة كبرى قد تجرّ الإقليم كله إلى المجهول.

هندسة “كماشة العرب” معادلة لا تزال تتحكم بالجغرافيا

منذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، مرورًا بغزو العراق في 2003، وحتى اللحظة، صممت واشنطن معادلة إقليمية دقيقة تقوم على ركيزتين:

منع العرب من التحول إلى مركز قرار مستقل.

صناعة تهديد ثنائي دائم: إسرائيل من جهة، وإيران من جهة مقابلة.

ليكون العرب دائمًا في المنتصف، لا يملكون زمام القرار، بل يتحركون ضمن هوامش محددة بين قطبي كماشة لا يسمح لهما بالتحطم، ولا بالتلاقي.

هذه المعادلة لم تكن عرضًا جانبيًا، بل خيارًا استراتيجيًا يخدم مصالح واشنطن: دول عربية مشرذمة، وإيران منشغلة بصراعات بالوكالة، وإسرائيل متفوقة عسكريًا وتقنيًا. لكن ما لم يكن محسوبًا تمامًا هو أن إيران ستمتد بهذا الشكل، وأن مشروعها النووي سيتحول من أداة للردع إلى تهديد وجودي لنظام المعادلة ذاتها.

إسرائيل: من موقع الرصد إلى مربع التهديد

لطالما رأت تل أبيب في إيران خصمًا أيديولوجيًا بعيدًا، يقاتل بالوكلاء في لبنان وسوريا والعراق. لكن الصورة تبدلت. لم يعد الخطر نظريًا، ولا مجرد تحدٍّ عسكري تقليدي، بل بات تهديدًا وجوديًا.

إيران تقترب من العتبة النووية، والسؤال في إسرائيل لم يعد “هل ستنتج القنبلة؟” بل “متى؟”. فمن يمتلك سلاحًا نوويًا ويزرع أذرعه المسلحة عند حدود إسرائيل، يستطيع فرض معادلة ردع جديدة تفقد تل أبيب امتياز الردع الأوحد الذي أسس أمنها طوال عقود.

ومع أن إسرائيل تسعى إلى الحيلولة دون ذلك عبر استهدافات متقطعة في سوريا ولبنان، إلا أن شعورها بالقلق يتصاعد: فكل تأخير، في نظرها، هو خطوة إضافية تمنح إيران وقتًا وشرعية وشرطًا نوويًا أكثر واقعية.

واشنطن: لا للحرب… ولا للقنبلة… ولا لانهيار المعادلة

تعيش واشنطن مأزقًا مركّبًا. فهي لا تريد حربًا مع إيران، لما تحمله من تبعات اقتصادية وتحالفية خطيرة، لكنها كذلك لا تستطيع القبول بإيران نووية تهدد أمن إسرائيل وتفجر سباق تسلح إقليمي.

ومع ذلك، لا تبدو الولايات المتحدة مستعدة لتفكيك المعادلة القديمة التي تضع إيران وإسرائيل كقطبي توازن فوق جسد عربي هش. فسقوط طهران، مهما بدا مغريًا، يعني انهيار الضلع الثاني في نظام الردع، ويفتح الباب أمام تحولات إقليمية لا تضمن واشنطن نتائجها.

لذا، تكتفي واشنطن اليوم بـ”إدارة الأزمة” لا حلّها: تفرض عقوبات، تحرّك وسطاء، ترسل حاملة طائرات، لكنها تتجنب القرار الكبير.

المواجهة المؤجلة: الزمن هو المنتصر الوحيد

ما لا يُقال صراحة هو أن لا إيران ولا إسرائيل ترغبان في حرب شاملة. إيران تدرك أن المواجهة قد تطيح بنظامها من الداخل. وإسرائيل تعلم أن الضربة قد لا تنجح في تدمير المشروع النووي بالكامل، وقد تُفجر المنطقة كلها بلا أفق.

لهذا، يتجنّب الطرفان الوصول إلى نقطة اللاعودة، مع بقاء خطر التصعيد قائمًا دومًا، فكل عملية خاطفة أو رد متبادل قد تتحول إلى شرارة لانفجار لا يريده أحد… لكن لا يستطيع أحد إيقافه إذا بدأ.

العرب: الحاضرون… الغائبون عن القرار

وسط هذه المعادلة الدقيقة، يبقى العرب في موقع المتفرّج المقيّد. من جهة، يواجهون تمددًا إيرانيًا متسارعًا عبر الميليشيات والسلاح والتغلغل الأيديولوجي. ومن جهة أخرى، يقفون أمام تفوّق إسرائيلي لا يعيرهم اعتبارًا، ويتعامل معهم كورقة أمنية أو هامش تطبيع لا أكثر.

لا أحد في هذه اللعبة يرى في العرب شريكًا. فإيران تخشاهم إذا استقلوا، وإسرائيل تحذر من نهضتهم، والولايات المتحدة تفضّل إبقاءهم مقيدين بجغرافيا الفوضى.

ذلك أن العدو المشترك، وإن اختلفت الرؤى بين طهران وتل أبيب، هو أي نهضة عربية سيادية مستقلة قد تفرض معادلة جديدة لا تروق لأحد من الطرفين.

في انتظار من يكسر كماشة الجغرافيا

المعادلة الأميركية التي تم تثبيتها منذ عقود لم تتصدّع بعد، لكنها تعاني من اهتزازات حادة. إيران تتقدم، إسرائيل تتوتر، والولايات المتحدة تمسك بالخيوط المرتجفة، لكن لم تعد تتحكم بها كما في السابق.

وفي قلب هذا المشهد، يقف العرب في وضع انتظار دائم: لا قرار، لا ضمانات، لا شراكة.

بانتظار من يعيد هندسة المعادلة… ويكسر كماشة الجغرافيا، قبل أن تُحسم الحرب الكبرى دونهم، وعلى حسابهم .

التعليقات معطلة.