أ.د. محمد الدعمي
إنه لمن غرائب الأمور أن يمرر تعبير “حرب الأفكار” دون ملاحظة من هؤلاء المسؤولين الكبار الذين يعملون بمثابرة على منح أنفسهم صورة “الصداقة” و”الاحترام” للإسلام ولمعتنقيه في “العالم القديم”. بيد أن خطورة توظيف لفظة “حرب” في هذا السياق وفي وقت شديد الحساسية تتبلور في أنها (اللفظة) يمكن أن تدق أجراس الخطر في دواخل كل مسلم، بغض النظر عن طبيعة إدراكه وفهمه للإسلام.
إن أهم المؤشرات تشير إلى ثمة “حرب الأفكار” التي تشير إلى أن هذه الحرب المتوقعة ستبدأ على نحو “لفظي”، بمعنى أنها إنما تنطوي على صراع ثقافات أو منازلة فيما بين الحضارات، وهو لا ينبغي أن يتسع الإمكانية يمكن أن يجد له حلا عن طريق الحوارات. هذا، كما يُقال، هو عصر الحوارات” الذي خذلته الإدارة الأميركية عن سبق إصرار وتعمد: حوار الشرق ـ الغرب، حوار الشمال ـ الجنوب، حوار الموائد المستديرة، وسواها من الحوارات الجارية هنا وهناك. بيد أن المعنى النهائي لاضطلاع واشنطن، وليس غيرها، بإعلان حرب الأفكار ضد العالم العربي والإسلامي خاصة، إنما يتبلور في أن إخفاق الحوارات أو “المبارزات اللفظية” التي لا يمكن أن تُحسم بدون توظيف لغة الصواريخ والمدافع والقذائف وغيرها من أدوات التدمير والقتل والهدم. ولكن القضية تبقى، في نهاية المطاف، قضية “لغة”، ذلك أن العقل الأميركي، العقل الإداري الأميركي على نحو التخصيص، يعاني من “أزمة” تواصل أو “سوء فهم” مع الآخرين بسبب غياب وجود “لغة مشتركة” يمكن توظيفها كقناة للتفاهم ولتبادل الآراء والأفكار في “تنظيم مروري” سلس ومتناغم للأفكار يتم عبره التوصيل والاستلام، بمعنى اعتماد آلية “التحفيز ـ الاستجابة”. هذا ما يفسر إعلان البيت الأبيض (بعد احتلال العراق، 2003) إرسال 24 دبلوماسيا أميركيا (بعد الغزو، 2003) كي ينتشروا عبر محافظات العراق على سبيل الاضطلاع بمهمة “تحسين” صورة أميركا. ولأن الذهنية الأميركية تعاني من “نرجسية” فكرية فظيعة مفادها تفوق العالم الجديد، وهي النرجسية التي تؤهلها لمسح بقية أنحاد العالم وثقافاته بنظرة دونية مشوبة بالخيلاء والكبرياء، فإنها، كنتيجة، تخفق في أن تجد من يفهم لغتها ويدرك آليات تفكيرها. وهذا، بكل دقة، ما يسيء كثيرا إلى سمعة الإدارة الأميركية وإلى سمعة “أدواتها التحاورية” بسبب غياب اللغة المشتركة مع الآخرين، الأمر الذي يضع هذه الإدارة في حال محرجة تضطرها لأن “تنتقي” أو “تنتخب” من يحاورها من المعسكر المقابل. وهذا ما حدث فعلا إبان المحاولات الأولى لمد جسور الحوار بين القيادات، وبين الإدارات الأميركية المتتابعة على سلطة البيت الأبيض منذ سبعينيات القرن الماضي. وهذا هو ما أدى، كذلك، إلى تجاوز أميركا لسلطات الآخرين من خلال اشتراط الإدارة الأميركية أن تسمي هي من يحاورها في الطرف المعاكس، الأمر الذي يستفز هذا الطرف المعاكس ويؤول به إلى العزوف عن مثل هذا “الحوار” غير المتوازن وغير الندّي.
لكن لمسألة “صراع” الأفكار بُعدا آخر، ذلك أن الحرب تعني صداما بين عدوّين لدودين، عدوّان كانا قد استنفدا جميع الوسائل السلمية والسبل التفاعلية الحضارية كي يضطرا إلى التصادم النهائي عن طريق الحرب التي لا يمكن إلَّا وأن تنتهي بـ”انتصار” طرف و”هزيمة” الطرف الآخر. لهذا السبب يبدو توظيف واشنطن تعابير من نوع “كل الخيارات على الطاولة” إنما يعبر عما يعتمل بدواخلها من شعور وسواسي بأنها أمام ثقافة أو فكر معاكس لا يمكن أن تتعايش معه، وهي لهذا تقبل “المبارزة” النهائية كي تحسم الخلاف وتلحق الهزيمة المهينة بالطرف المعاكس المتصارع. وبكلمات أخرى، يحيا العقل الإداري الأميركي تحت خيال واهم مفاده عدم إمكانية “تعايش” الثقافتين والفكرين المتنافرين، الأميركي من جهة، والعربي الإسلامي من الجهة الأخرى. بل إن هذه هي فعلا نهاية الحضارة ونهاية الثقافة، حيث لا تسمح ثقافة معينة بوجود ثقافة تختلف أو تنافس أو تفترق عنها في نقاط معينة، الأمر الذي يميط اللثام عن “دكتاتورية” الأفكار الجديدة التي تبشر بها واشنطن مع من ترسلهم من “رُسل” العالم الجديد إلى “العالم القديم”، على نحو واعٍ أو غير واعٍ. لهذا استوجب التنويه، ليس لهذه الإدارة الأميركية فقط، بل كذلك لأساطين الإدارة الأميركية التي سوغت لنفسها منح القدس ومعاقبة من يخالفها.
إنه لمن غرائب الأمور أن يمرر تعبير “حرب الأفكار” دون ملاحظة من هؤلاء المسؤولين الكبار الذين يعملون بمثابرة على منح أنفسهم صورة “الصداقة” و”الاحترام” للإسلام ولمعتنقيه في “العالم القديم”. بيد أن خطورة توظيف لفظة “حرب” في هذا السياق وفي وقت شديد الحساسية تتبلور في أنها (اللفظة) يمكن أن تدق أجراس الخطر في دواخل كل مسلم، بغض النظر عن طبيعة إدراكه وفهمه للإسلام. كما أن اللفظة يمكن أن تمتطى من قبل المنظمات الإرهابية، من نوع القاعدة أو الدولة الإسلامية، دلائل على أن الإدارة الأميركية ليست بصدد تغيير بعض الأنظمة الدكتاتورية من أجل التخلص من بعض المخاطر المحيقة بها، بقدر ما هي بصدد مواجهة “حياة أو موت” مع الإسلام، حضارة وثقافة ومعتقد. هكذا ما سيؤهل ويبرر هذا التعبير الخطير دعاة الإرهاب لتعبئة جميع المسلمين وإمكانياتهم في “حرب مقدسة” ضد أميركا والعالم الغربي، بذات الطريقة التي أهّلت أسامة بن لادن لإطلاق تهديداته وتوعداته للشعب الأميركي والشعوب الغربية: أن اعتنقوا الإسلام، وإلَّا فإننا سنحطم أميركا واقتصادها وكل شيء فيها. هنا يكمن الخطر الحقيقي لتعبيرات يشوبها النزق والعجالة كتعبير “حرب الأفكار” الذي يرسخ الاعتقاد السائد بين شعوب العالم بأن الإدارة الأميركية لن تكتفي بمصادرة ثرواتها وأراضيها لأنها ترنو، في نهاية المطاف، إلى هزيمة أفكارها وغسل أدمغتها وإعادة تشكيلها كذلك.
تنوع وتناقض وتنافر الأفكار والمنظورات إنما هو سجية من سجايا الإنسانية البنّاءة، بل هو واحد من أجمل تعابير حيوية الإنسان وفطنته وذكائه. لهذا السبب لم تتمكن أية دكتاتورية فكرية أو ثقافية في تاريخ العالم من أن تُدخل عقول البشر في ماكنة “فرم اللحم” كي تخرجها من الجهة الثانية متماثلة ومتسقة وذات عيار واحد موحد. بل إن أفضل تعابير رفض هذا النوع من دكتاتوريات الأفكار قد جاء من قبل مفكر غربي بريطاني اضطلع بتشكيل رؤية روائية لعالم جحيمي يسوده فكر واحد وعقل واحد على نحو استبدادي: ذلك هو الكاتب “جورج أورويل”، في روايته الكلاسيكية الفذة المعنونة (1984). لقد حذر هذا الروائي النبوئي من عالم قبيح ينتصر فيه فكر أحادي الجانب مستبد منفرد ليسحق جميع الأفكار المخالفة والمشارب المتناقضة على سبيل إحالة الإنسان وتنوعاته إلى شيء أشبه بالماكينة العمياء لا تخشى أحدا، سوى من (الأخ الكبير) الموزعة صور له في كل مكان، من الشارع إلى غرفة النوم!