جمال سلطان
عندما بدأ يتواصل معنا في موقع “المصريون” قبل حوالي عشر سنوات، في أواخر عصر مبارك، كنت أقول لنفسي: كيف غفلنا عن مفكر بهذا الحجم طوال تلك السنوات، وكيف لم ننتبه له، كان شخصا موفور الثقافة والمعرفة، كما كان واسع التأمل في شؤون الحياة والدين، وكانت له اهتمامات استثنائية بأوضاع الأقليات المسلمة حول العالم، بمنظور ثقافي وحضاري وليس بمنظور طائفي، كما كانت له قراءات بالغة العمق في كتابات نفر من رموز المسلمين في الغرب ممن تركوا بصمة واضحة على الفكر، مثل الراحل الكبير علي عزت بيجوفيتش ومثل المفكر الألماني الرائع مراد هوفمان، والمفكر النمسوي الفذ محمد أسد (ليوبولد فايس)، لذلك كانت فجيعتي كبيرة عندما وصل إليّ خبر وفاته أمس في مهجره الاختياري في أستراليا عن ثلاثة وثمانين عاما.
فقد غيب الموت عنا أمس المفكر الكبير الدكتور محمد يوسف عدس، الكاتب والمثقف والإنسان الخلوق، دون أن يشعر به كثيرون، لأنه كان بعيدا عن جلبة الإعلام وضجيجه، كما كانت اختياراته الفكرية وهمومه أعلى من أن يستوعبها الإعلام الحالي الذي غلبت عليه السطحية والتفاهة، بما فيه الإعلام المحسوب على التيارات الإسلامية، إلا قليلا، كما كان زاهدا في الشهرة وفي الظهور، ولا ينشر إلا اضطرارا لوصول أفكاره إلى الآخرين، ولتعريف الأجيال الجديدة بقضايا تاهت في وسط الضجيج، أو دفنت تحت ركام الدجل الإعلامي، أو غابت بفعل مراحل التجهيل العمدي وغير العمدي لشعوب المنطقة.
بالأساس، كان محمد يوسف عدس أحد أهم خبراء المنطقة العربية في علم المكتبات، وقد طور خبرته في هذا العلم بهجرته في أستراليا، التي هاجر إليها بعد نكسة 1967 التي سببت له صدمة وجدانية هائلة، حيث عمل في جامعات أستراليا الكبرى قبل أن ينتقل إلى الأمم المتحدة، اليونسكو، التي اختارته لمعرفته بأكثر من لغة وخاصة اللغة العربية، لترسله مبعوثا لها في أكثر من عاصمة عربية لتطوير علم المكتبات في جامعاتها الكبرى، حيث أسس في دولة قطر مكتبة جامعتها قبل أكثر من ثلاثين عاما ثم وضع مشروع التواصل التقني بين مكتبات جامعات دول الخليج العربي بطريقة رائعة، قبل وصول التقنية الجديدة وشبكات الإنترنت، كما ساهم بتطوير مكتبات الجامعات الأردنية وأيضا في سلطنة عمان، كل ذلك وهو مبتعث من اليونسكو، ثم كلفته الأمم المتحدة بالإشراف على عملية نقل أرشيف ووثائق جامعة الأزهر العريقة من مبناها القديم إلى المبنى الحديث، مع تقديم تصور لدعم مكتبة الأزهر وتطويرها.
تفرغ يوسف عدس مبكرا للكتابة والتأليف، بعد أن سئم العمل الوظيفي رغم وجاهته واستقال دون التقاعد، فأخرج لنا أهم وأفضل الترجمات لأعمال مفكرين عظام، فهو المترجم الأهم لتراث المفكر والمناضل البوسني الرائع وأول رئيس للبوسنة بعد تحريرها “علي عزت بيجوفتش”، فهو الذي قدم للمكتبة العربية كتابه “الإعلان الإسلامي”، كما أنه قدم لنا كتابه الفذ “الإسلام بين الشرق والغرب”، وقراءات رفيعة في تراث وسيرة الأديب والمفكر الهندي الكبير محمد إقبال، والمفكر النمساوي الفذ “محمد أسد”، كما وضع عددا من المؤلفات الخاصة به عن قضايا الشيشان والبوسنة والفليبين، وفي نقد الهيمنة الرأسمالية، خاصة كتابه “النهب المنظم لفقراء العالم.. الشركات والتكتلات الاحتكارية”، وكتابه “الوجه الحقيقي للإمبريالية الأمريكية”، ومئات المقالات في مجلات عربية متنوعة تكشف عن مثقف من طراز نادر.
اختلف معنا في المصريون في العام 2013، بسبب نقدنا الشديد لنظام الرئيس الأسبق محمد مرسي، ورغم أنه لم يكن يوما من الأيام منتميا إلى الإخوان ولا أي تيار من تيارات الإسلام السياسي؛ نظرا لتفرغه الكامل للبحث والمعرفة، إلا أنه كان أحد المؤمنين بأن ثورة يناير فرصة تاريخية لمصر ولا ينبغي أن تضيع، وأن الحكمة أن نصبر على “المر” اتقاء لما هو أمر منه، وأن تجربة الديمقراطية تحتاج إلى فسحة من الوقت لتتطور، وأن الأصوب هو الصبر على تجربة مرسي، وقرر مقاطعتنا من يومها وتوقف عن الكتابة معنا، وقدرنا له رأيه واحترمنا اختياره رغم اختلافنا معه وقتها، وبقيت بيننا المودة والاحترام.
رحم الله هذا العالم الكبير، الذي عمل في صمت ورحل في صمت، وجزاه عن أمته وعن وطنه وعن المعرفة الإنسانية خير الجزاء، وعوضنا خيرا عن خسارتنا الكبيرة بفقده.