ـ طارق العليان
أعاد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عزمه إعادة السيطرة على قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان النقاش حول الدور الأمريكي في جنوب ووسط آسيا، وسط تساؤلات عن دوافع واشنطن الحقيقية من هذه الخطوة التي تُعدّ الأكثر رمزية منذ انسحابها الفوضوي عام 2021.
وفي هذا الإطار، قالت فاطمة أمان، باحثة وكاتبة متخصصة في الشؤون الإيرانية والأفغانية منذ أكثر من 25 عاماً، إن هذا القرار لا يُقاس فقط من زاوية عسكرية، بل يحمل أبعاداً جيوسياسية عميقة تمتد من إيران إلى الصين وروسيا، وقد يشكل بداية فصل جديد من الصراع بين القوى الكبرى على قلب آسيا.
باغرام.. الموقع الذي يغيّر قواعد اللعبة
وأوضحت الكاتبة أن الأهمية الجغرافية للقاعدة تفسّر وحدها سبب القلق الدولي من عودة واشنطن إليها. فهي تقع على بعد نحو ألف ميل من طهران، و400 ميل فقط من إقليم شينجيانغ الصيني، وأقل من 800 ميل من ميناء جوادر الباكستاني، الذي يُعدّ عقدة رئيسة في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
وأضافت الكاتبة أن هذا الموقع يمنح الولايات المتحدة نقطة مراقبة فريدة تمكنها من متابعة تحركات إيران والصين وروسيا في وقتٍ واحد، ما يحوّل أفغانستان من ساحة لمكافحة الإرهاب إلى مسرحٍ رئيس للمنافسة بين القوى الكبرى.
التاريخ الاستراتيجي للقاعدة
وقالت الكاتبة إن قاعدة باغرام بُنيت في الخمسينيات، ثم تحولت إلى المركز العصبي للاتحاد السوفييتي خلال غزوه لأفغانستان في الثمانينيات. وبعد التدخل الأمريكي عام 2001، شهدت القاعدة توسعاً هائلاً، فأصبحت واحدة من أكثر القواعد الجوية تطوراً خارج الأراضي الأمريكية.
وأضافت الكاتبة أن تميّز باغرام يكمن في استقلالها النسبي عن تقلبات السياسة في المنطقة، حيث القواعد الأمريكية الأخرى عرضة لصواريخ إيران وتقلب مواقف الدول المضيفة. فوجود قاعدة محصنة في عمق آسيا يمنح واشنطن حرية حركة أكبر وقدرة على مراقبة ثلاث جبهات حساسة: إيران شرقاً، والصين غرباً، وروسيا شمالاً.
إيران: القلق من جبهة شرقية جديدة
وقالت الكاتبة إن إيران تنظر بقلق بالغ إلى احتمال عودة القوات الأمريكية إلى باغرام، إذ طالما ركّزت دفاعاتها على الغرب والخليج وإسرائيل، فيما بقيت حدودها الشرقية أكثر هشاشة.
وأضافت الكاتبة أن القاعدة الأمريكية ستُتيح للطائرات المسيّرة الأمريكية مراقبة تحركات الحرس الثوري الإيراني ورصد شبكات التهريب والمواقع الصاروخية قرب الحدود الأفغانية. وحتى في غياب الطائرات الهجومية، يكفي وجود القاعدة لفرض ضغط دائم على طهران وإجبارها على إعادة توزيع مواردها الدفاعية.
وتابعت الكاتبة أن وجوداً أمريكياً متجدداً سيؤثر أيضاً على العلاقة المعقدة بين إيران وطالبان، إذ طوّرت طهران منذ عام 2021 تفاهمات براغماتية مع الحركة لتأمين مصالحها في غرب أفغانستان، وتخفيف خطر الجماعات السُنيّة المتشددة. لكن دخول واشنطن مجدداً إلى المعادلة سيجعل طالبان أمام اختبار صعب بين الانفتاح على أمريكا والحفاظ على علاقتها بطهران.
الصين: الخطر على “الحزام والطريق”
وأوضحت الكاتبة أن الصين ترى في أفغانستان وباكستان حلقة أساسية في مبادرة “الحزام والطريق”، ولا سيما عبر “الممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني” الذي يربط إقليم شينجيانغ بميناء جوادر على بحر العرب.
وأضافت الكاتبة أن وجود قاعدة أمريكية نشطة في باغرام سيضع “العيون الأمريكية” مباشرة على هذه المشروعات، مما يمنح واشنطن فرصة لمراقبة الأنشطة الصينية الأمنية والاقتصادية، وتتبع تحركاتها في شينجيانغ وغرب الصين.
وتابعت أن هذا التطور سيجبر بكين على زيادة إنفاقها الدفاعي لحماية مصالحها، كما سيمنح واشنطن أداة لمراقبة التعاون الإيراني–الصيني الذي تعزز بعد اتفاق الشراكة الممتد لـ25 عاماً الموقع عام 2021.
روسيا: نفوذ مهدد ومخاوف متزايدة
وقالت الكاتبة إن روسيا كانت أول دولة تعترف رسمياً بحكومة طالبان هذا الصيف، بعد أن أزالت الحركة من قائمتها للمنظمات الإرهابية، ما منح موسكو نفوذاً واسعاً في كابول.
وأضافت الكاتبة أن الكرملين يعتبر نفسه اليوم “الضامن الأمني” في آسيا الوسطى، ويرى في عودة واشنطن إلى باغرام اختراقاً خطيراً في فنائه الخلفي.
وتابعت الكاتبة أن موسكو قد تردّ تدريجياً عبر التحالف مع الصين وإيران، ومحاولة التأثير على دول منظمة الأمن الجماعي للحد من أي نشاط أمريكي، وربما دعم فصائل داخل طالبان معارضة للتعاون مع واشنطن. كما ستكثف حملاتها الإعلامية والإلكترونية لتصوير عودة أمريكا على أنها تهديد للاستقرار في المنطقة.
الهند: الحذر والترقب
وأشارت الكاتبة إلى أن الهند ستتخذ موقفاً حذراً من هذه الخطوة، فهي تخشى النفوذ الصيني والباكستاني، لكنها في الوقت نفسه على خلاف تجاري مع واشنطن. ولهذا ستفضّل دبلوماسية الصمت: لا تؤيد علناً، لكنها قد تتعاون استخبارياً مع الولايات المتحدة بشكل غير معلن.
عودة معقدة ومخاطر عالية
وأوضحت الكاتبة أن إعادة تشغيل قاعدة باغرام ليست مهمة سهلة، حتى بموافقة طالبان. فإصلاح البنية التحتية وتشغيل المدارج واستعادة الخدمات الأساسية قد يستغرق ما بين ستة إلى اثني عشر شهراً. وخلال هذه الفترة، ستسعى روسيا والصين وإيران إلى عرقلة المشروع بطرق مباشرة أو غير مباشرة.
وأضافت الكاتبة أن انقسام الفصائل داخل طالبان قد يؤدي إلى صدامات داخلية، بينما قد تموّل طهران أو موسكو فصائل متشددة لإفشال التعاون مع الأمريكيين. أما الصين فقد تستخدم نفوذها الاقتصادي عبر باكستان للضغط على واشنطن.
اختبار جديد لهيبة واشنطن
وختمت الكاتبة مقالها بالقول إن خطوة ترامب لاستعادة باغرام تمثّل مغامرة محفوفة بالمخاطر، لكنها أيضاً إعلان بأن الولايات المتحدة لا تنوي مغادرة لعبة النفوذ في أوراسيا.
وأضافت الكاتبة أن هذه القاعدة لن تكون مجرد منصة لمكافحة الإرهاب، بل أداة لإعادة رسم ميزان القوى في آسيا الوسطى.
وأضافت أن نجاح واشنطن في هذه المغامرة سيعتمد على مدى قدرتها على موازنة القوة العسكرية بالحكمة الدبلوماسية، لأن أي خطأ في الحساب قد يحوّل باغرام من رصيد استراتيجي إلى شرارة لأزمة عالمية جديدة.

