هيو غرين*
ترجمة: لطفية الدليمي
أفكارُك الخاصة هي محضُ جزءٍ من مشهد المعيش اليومي. لا يمكن العيش بمعزل عن العلاقات البشريّة؛ فهي جزء حيويّ للطريقة التي تفكّرُ بها وتتعامل -من خلالها- مع العالم.
أعملُ اختصاصيًّا في علم النفس العصبي Neuropsychology، وبصفتي هذه أشعر وكأنّ من المفترضات المسبّقة أن أبدأ هذه المقالة بموقفٍ من التبجيل العميق للدماغ البشري. قد أشيرُ في سياق هذا التبجيل مثلًا إلى العدد الهائل من الوصلات العصبية فيه (الذي يُضاهي في كثرته عدد النجوم في مجرة درب التبانة)، أو قد أوجّه انتباهكم إلى أدواتنا المتطوّرة على نحو متسارع في ميادين التصوير العصبي والتي تُقرِّبُنا من صورة كاملة لكيفية عمل الدماغ، أو -ببساطة- قد أكتفي بالإشارة العابرة إلى الغموض العميق للمادة (الدماغية) التي تجري فيها كلّ ديناميات معيشنا اليومي المشتبك بكلّ تعقيداته وتفاعلاته.
ولكنْ، مع أنني كثيرًا ما أشعر بشيءٍ من هذا التبجيل، فإنّني في الوقت ذاته أعتقد أنّ الإفراط فيه قد يُشتِّتُ جهودنا لفهم الفكر Thought. أعلم من تجربتي السريرية أنّ الدماغ إذا أصيب بضرر ما فإنّ إدراكنا سيتضرّر أيضًا، وغالبًا بطرق منتظمة ومتوقّعة. دعوني أقدّمْ أمثلة مشخّصة: إذا عانيتَ من تلف في الفص الجبهي Frontal Lobe فغالبًا ما ستصبح أقّلّ مقدرة على التحكّم في سلوكك. إذا أُصِبْتَ بسكتة دماغية Stroke في الجزء ذي الصلة بالإدراك البصري من الفص القذالي Occipital Lobe فستتراجع قدرتك على فهم المعلومات البصرية. هذا الارتباطُ الوثيق بين الدماغ والإدراك أصبح مبدأً أساسيًّا في ثقافتنا العلمية، ومعه يقترنُ شعورٌ بضرورة أن نفهم أنفسنا كآلات: إزالةُ أو تلفُ جزء من الأجهزة يؤدّي إلى تلف البرمجيات. (الأجهزة في هذه المحاكاة هي الجهاز العصبي لدى البشر، والبرمجيات هي الإدراك البشري، المترجمة)
مع ذلك، كلما أمضيتُ وقتًا أطول مع المرضى اتّضح لي أكثر فأكثر أنّ هذا ليس سوى جزء من الصورة. ليس سوى مشهد واحد من المعيش اليومي المعقّد والمشتبك. إحدى مهامي السريرية هي توجيهُ مطالب غير عادية إلى المرضى للكشف عن أعراض إدراكية قد تمرُّ دون أن يُلاحظها أحد. أجريتُ في إحدى المرّات مقابلة مع رجلٍ يُعاني من فقدانٍ شديدٍ للذاكرة بعد إصابةٍ ناجمةٍ عن نقص الأوكسجين في دماغه. زوجته، التي كانت حاضرةً أيضًا في المقابلة، أخذتني جانبًا بعد ذلك. صُدِمَتْ بقسوة. لم تكن تُدرك مدى سوء حالته لأنه، وبمجرد التحدّث معه، لم يكن واضحًا أنه يُعاني من صعوبةٍ في تكوين ذكرياتٍ جديدة. ولكن عندما سألتُهُ بصراحةٍ عن سبب وجوده في المستشفى، لم يكن لديه أدنى فكرة عمّا يكون السبب. ولكن إلى أي مدى كشفتُ عن مشكلةٍ وإلى أي مدى خلقتُ واحدةً؟ ألا تعتمد قدرتُنا على التفكير بشكلٍ كبيرٍ على متطلّبات حياتنا؟
كَشَفَ العمل السريري وتجارب الحياة عن كيفية تأثير الإدراك، وإلى حدٍّ مثير للدهشة، في علاقاتنا مع الآخرين. قد يبدو الأمرُ غير منطقي ومخالفًا للبديهة الحدسية العامّة في عصر علم الأعصاب Neuroscience؛ لكنني أعتقد بشكل متزايد أن ضعف إدراكك مرتبطٌ ارتباطًا مؤثّرًا بالسياق الإجتماعي الذي تجد نفسك فيه.
عندما انتقلتُ إلى منزلنا الحالي مع عائلتي الصغيرة، خرجتْ إحدى جاراتنا المُسنّات، إميلي Emily، لتُعرّف عن نفسها. كانت ودودة ولطيفة وبخاصّة مع أطفالنا بطريقةٍ مُحبّبة ومُبالغ فيها. كانت تُكرّرُ كلامها في المحادثات بشكلٍ لا يمكن إلّا أن يلفت نظري. تساءلتُ إن كانت تُعاني من الخَرَف Dementia. مع مرور الوقت تأكّد انطباعي هذا وتعزّز تشخيصي لحالتها. كانت تراني بشكلٍ شبه يومي أثناء اصطحاب الأطفال من المدرسة إلى المنزل؛ ولكن في كل مرةٍ نلتقي بها كانت تُعرّفُ عن نفسها كما لو أننا لم نلتقِ من قبلُ. لم يكن الأمر ذا أهمّية لي أبدًا. كانت تُحبّ الأطفال وكانوا يُحبّونها. كانت تضحك وتُغنّي معهم أحيانًا ونحنُ في منتصف الطريق. كنتُ قلقًا عليها لكنها كانت تبدو دائمًا بخير، وكنتُ أعلم أنّ إبنها يسكن بالقرب منها، ويُعنى باحتياجاتها الأساسية.
بمعنىً ما، كانت إميلي مُعاقة impaired. لم تكن تتذكّرُ مَنْ نحن، وكانت مُتحرّرة من القيود (بمعنى الأعراف Norms، المترجمة) الإجتماعية. ولكن من جانبٍ آخر مهم، خفّف السياق الإجتماعي الناجم عن علاقاتها البشرية من مظاهر إعاقتها إلى حدود بعيدة. لم تكن مشاكلُ ذاكرتها المعطوبة مخفيّة فحسب بل وجدت مساحةً لم تكن فيها هذه المشاكل ذات أهمية، حيث ازدهرت في تلك المساحة شخصيتُها المرحة ونشاطها الجسدي إلى حدّ لا يمكنُ إلّا أن يصيب الآخرين بعدواه الصحّية. يتوافق حالُ إميلي هذا مع آراء بعض نشطاء الإعاقة؛ إذ يُشير النموذج الإجتماعي للإعاقة إلى أنّ الأشخاص يُعانون من الإعاقة بسبب الحواجز المجتمعية، لا بسبب اختلافهم الجسدي أو العقلي عن سواهم.
يصحُّ هذا على وجه التخصيص مع التفكير Thinking. تخيّلْ تلك الأوقات التي يُذكّرك فيها وجودُ الآخرين بموعد، أو إسم، أو -ببساطة- يُشجّعك على تركيز انتباهك بشكل مختلف على أمر ما. تُوفّرُ علاقاتُنا سياقًا للتفكير، وسببًا للتفكير. نتشاور مع بعضنا للوصول إلى قرارات مهمة، ونناقشُ الأفكار سعيًا لإختبارها. هذه العمليات مُتجذّرة في مؤسساتنا السياسية. تفترض نُظُمُ الحكم الحديثة أن القرارات الأخلاقية والسياسية المهمة تُتّخَذُ على أفضل وجه من خلال عمليات النقاش بين الأشخاص بدلًا من تركها للأفراد وحدهم.
لطالما إعترف علم النفس التطوّري Developmental Psychology بأهمّية وحيوية العنصر الإجتماعي في فعّالية التفكير البشري. قبل ما يقربُ من مائة عام لاحظ عالم النفس السوفيتي ليف فيغوتسكي Lev Vygotsky أنّ ظهور الفكر الفردي يُمكن فهمُهُ على أنه استيعابٌ للحوار بين الأشخاص. غالبًا ما يتحدّث الأطفال الصغار الذين يلعبون بمفردهم إلى أنفسهم، مرددين ما يبدو وكأنه تعليمات من الكبار. تشبه هذه التعليمات بوضوح نوع البنية اللفظية التي يتلقونها من مقدّمي الرعاية (الأب والأم على الأغلب، المترجمة). إنّ تعلّم التفكير الذاتي هو عملية تمثيل لمساهمات الآخرين خلال علاقاتنا الإجتماعية معهم.
ليس الآخرون مصدر تعزيز إدراكي لنا على الدوام؛ إذ يمكنُ للأشخاص من حولنا أيضًا أن يعملوا على كبح قدراتنا الإدراكية. إنّ شريك المحادثة الذي يبدو راغبًا في تجنّب تناول موضوع ما قد يُصعّبُ عليك التفكير فيه بشكل مناسب وبكيفية منتجة.
لذا، وفي الوقت الذي يهمّني فيه دماغي فإنّ مديات إدراكي تتجاوز حدودي (تتجاوزُ نطاق تأثير دماغي). أنا مثلًا أتخذُ قرارات مهمة بالتشاور مع المقرّبين مني، وأستعينُ بمن يذكّرُني بالتواريخ المهمّة، وأعتمدُ على عائلتي وزملائي لمناقشة الخطط المؤثّرة في تشكيل حياتي. هذا النوع من التفاعل الإجتماعي لا يدعم قدراتي الإدراكية فحسب بل هو جزء من إدراكي الشخصي أنا أيضًا. يترتّبُ على هذه الحقيقة أنّ مدى القوّة الإدراكية للفرد إنّما يعتمد على الدعم الإجتماعي الذي يحظى به ممّنْ حوله. هذا لا يعني أنّنا يُمكننا تجاهُلُ الآثار السلبية لإصابات الدماغ والخَرَف. تَلَفُ الدماغ Brain Damage عادةً ما يُؤدي إلى صعوبات في التفكير؛ لكن الحديث عن الضعف الإدراكي هو حديث عن شيء ما كان ليوجد بكيفية يمكنُ التعايشُ معها لولا وجود الأشخاص الآخرين الذين يضيفون ثراءً وبهجة وحسّا حميميًّا إلى حياتنا.
*هيو غرين Huw Green: طبيب نفسي سريري ومختصّ في علم النفس العصبي في مستشفى أدينبروك العائد لجامعة كامبردج. يعمل حاليًا على تأليف كتاب عن علم النفس العصبي والشخصية. (المترجمة)
– الموضوع من صحيفة (غارديان) البريطانية بتأريخ 8 تمّوز (يوليو) 2024