خميس بن عبيد القطيطي:
إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع الفائت الانسحاب من سوريا يحمل في طياته عددا من المؤشرات والدلائل التي تنوعت تفسيراتها من قبل المراقبين والمتابعين للأحداث، وبعيدا عن تلك التفسيرات، فالانسحاب هنا يمثل نهاية طبيعية ومتوقعة لا بد أن تحدث عاجلا أم آجلا، لأن الحتمية التاريخية هي جلاء كل المحتلين بالنضال والمقاومة وهو ما تحقق على الأرض السورية. وما حدث في الأزمة الراهنة التي مرت عليها سبع سنوات عجاف هو فشل ذريع للإرهاب الدولي، حيث كان صمود سوريا الأسطوري هو العنوان الأبرز خلال تلك السنوات، وذلك رغم الضخ الهائل ماليا وإعلاميا وتسليحيا وسياسيا من قبل الدول الداعمة للإرهاب، وبقي الخاسر هنا أولئك الذين غرر بهم وركبوا موجة ما يسمى بـ”الثورة” السورية فسقطوا في أتون تلك الفوضى، ولعلهم أدركوا اليوم أن الثورات لا يمكن أن تستنسخ بهذا الشكل المركب وهذا النفس الخارجي المقيت، وأن الفوضى الخلاقة التي بشر بها أقطاب الشر العالمي لن تعود على الأوطان إلا بالدمار، وعلى الشعوب إلا بفقدان الأمن والمعيشة وكل مناحي الحياة الطبيعية، وهذا ما حدث خلال السنوات الماضية من الأزمة، ومن أراد أن يصوغ الأحداث أو يلونها بالألوان التي ترضي غروره ليراها بالألوان التي تروق له فهو لم يستفد بعد من قراءة الدروس، ومن أراد تسويق نفسه كبطل وحامي حمى “الثورة” فقد انتهى به الحال إلى نتيجة صفر على الشمال، وأصبح يندب حظه ويلعن السياسة التي ركب سفينتها بالمقلوب، ولم يتبقَّ أمامه إلا العودة إلى حاضنته الوطنية السورية أو أن يبحث له عن ملجأ في عواصم أعداء سوريا إن قبلت بوجوده طبعا أو يظل مشتتا في أصقاع الأرض.
وعودا على بدء، فإن الاختلاف في الرؤى حول الانسحاب بين ترامب ووزير دفاعه ماتيس الذي قدم استقالته يذكرنا باستقالة وزير الحرب الصهيوني أعقاب عملية خانيونس الفاشلة، فما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه ما حدث في الحالتين السورية والفلسطينية، وما أعظم نتائجهما على محور المقاومة، كما يذكرنا بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000م، ولا يختلف أيضا عن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وهذا له عنوان واحد يسمى (الهروب) وتبقى المؤشرات الأهم في سياق الأحداث على الأرض السورية هو أن السياسة والقوة لعبت دوريهما المتوازيين جنبا إلى جنب على صعيد إدارة الأزمة، ما أدى إلى محاصرة القوى المتآمرة على سوريا بحيث لم تجد لها مسارا آخر سوى الانسحاب، وبالتالي فإن الطبيعة هنا تفرض نفسها، وأما الأحلام والأوهام فسوف ترتد على مدبريها بالفشل كما تساقط عرابوها.
لقد أدت الوقائع على الأرض إلى زيادة الهوة بين تركيا والإدارة الأميركية نتيجة دعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية التي تعتبرها تركيا امتدادا لحزب العمال الكردستاني، وتمثل مشروعا انفصاليا ككيان كردي يهدد تركيا ويمثل خطورة على حدودها الجنوبية، وبالتالي فإن أحد دواعي هذا الانسحاب هو تخفيف التوتر مع تركيا، وعودة العلاقات النموذجية بين الولايات المتحدة وتركيا إلى سابق عهدها نظرا لما تمثله تركيا من أهمية في إطار الحلف الاستراتيجي الغربي، وأهمية بقائها ضمن حلف الناتو بعد أن بدأت تقترب تدريجيا من موسكو من خلال الاجتماعات التنسيقية في أستانة وسوتشي، وعلى أكثر من خط سياسي آخر لعبت فيه مهارة الدب الروسي دورها في هذا السياق، وينتظر أن تتوج بصفقة صواريخ “أس 400″، وهذا تطور خطير في سياق العلاقات الدولية وسياسة المحاور والأحلاف. وعليه، فإن عودة تركيا إلى الحضن الأميركي ضرورة سياسية يترتب عليها تقديم ضمانات مستقبلية بديلة على صعيد صفقات السلاح وتسليم المعارض التركي جولن الذي يتهم بضلوعه في محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، كل هذه الأسباب قد تكون منطقية لإعلان الانسحاب الأميركي من شمال سوريا، إلا أنها تعتبر تحصيل حاصل، فالانسحاب في حقيقته أمر لا مفر منه فرضته الوقائع والأحداث على الأرض بعد النجاحات الكبيرة التي حققها الجيش العربي السوري باستعادة غالبية أراضي الدولة، وهو ما يعني إعلان انتصار لسوريا لا بد أن يعقبه في كل الأحوال خروج القوات غير الشرعية القادمة من خارج الحدود.
بلاشك هنا أن “إسرائيل” تعتبر أكبر الخاسرين من هذا الانسحاب، فقد كانت تعول على استمرار الأزمة لأمد أطول ودعم الأكراد في تأسيس كيان على شاكلة كيان الاحتلال الصهيوني لتهديد دول الجوار على المدى المنظور أو على الأقل محاولة فصل جزء مهم من الأراضي السورية في منطقة شرق الفرات، وتعتبر هذه المنطقة من أهم وأغنى المناطق السورية، وهو يعتبر استكمالا للدور الصهيوني الخبيث، حيث قدمت “إسرائيل” خلال الفترة الماضية من الأزمة دعما لوجستيا كبيرا للمجموعات الإرهابية فقدمت المأوى والعلاج، ولكن كل جهودها باءت بالخيبة والفشل، فقد بقيت سوريا صامدة رغم كل الظروف، وهنا تتضح قوة الدولة السورية من خلال توظيفها لعناصر وأوراق القوة التي تمتلكها في إدارة الأزمة، وهذه الإدارة الاحترافية تحسب للقيادة السورية التي راهن بعض العرب على سقوطها وسقوط الدولة خلال أيام أو أسابيع، ولكن سوريا كانت تملك الحق والقوة واستعانت بالله في تأييدها ونصرها وقد تحقق ذلك ولله الحمد.
اليوم أصبح الأكراد في شرق الفرات وشمال سوريا أمام فرصة تاريخية ينبغي تلقفها بشكل براجماتي، فالواقع الماثل أمامهم الآن هو أن الدولة السورية تقترب من استعادة كامل أراضيها، وبالتالي فإن الموقف الآن أمامكم أيها الأخوة الأكراد، فأنتم أبناء الوطن السوري وينبغي الاستفادة من هذه الفرصة التاريخية بالعودة إلى حضن الوطن السوري، وهو الحضن الأرحب لجميع السوريين، وسوريا فتحت ذراعيها للجميع.
وأخيرا، يبدو أن احتفالات عيد الميلاد لهذا العام 2018م تواكبت مع تحقيق انتصار مهم ضد قوى الشر والإرهاب على الأرض السورية، ولم يتبقَّ إلا الإعلان عن الانتصار النهائي بعد القضاء على ما تبقى من فلول الإرهاب، وعودة جميع الأراضي إلى حياض الوطن.