«قرن» التهوّر الأميركي ومخاطره

1

 
المثنى حمزة حجي
 
 
سيسجل التاريخ أن الانسحاب العسكري العشوائي الأميركي، لو تم فعلاً بهذه الطريقة، من سورية من دون إعداد جيد للمشهد كان أحد أكثر القرارات تهوراً في التاريخ، إذ صنع التاريخ مجموعة من الصفات التي تحلّى بها بعض القادة منها الشجاعة والعبقرية، ولكن العالم لم يتحدث بشكل كاف عن دور التهور والغباء اللذين لعبا دوراً خطراً في صناعة التاريخ، فالقرارات غير الناتجة عن تقييم سليم للمشهد السياسي والعسكري أو ناتجة عن تهور تقود غالباً إلى نتائج كارثية على أصحابها ومصالحهم وأصدقائهم، وربما يزيد تأثيرها على القرارات النابعة من شجاعة وعبقرية.
 
 
كان قرار الرئيس أوباما الكارثي عام 2011 تسليم العراق لمليشيات إيران ثم الانسحاب من المشهد، أحد أغبى قرارات التاريخ، ويمكن أن ننسب أغلب الكوارث التي نعيشها الآن لهذا القرار من ظهور وانتشار داعش والفوضى التي عمت المشرق العربي، كذلك القرار الأكثر غباءً كان دعم انقلاب الإسلام السياسي فيما عُرف بـ «الربيع العربي» الذي فتح باب عدم الاستقرار على المنطقة، والحقيقة أني أجد في نفسي إحساسا بالقلق لم أحس بمثله منذ زمن، كون قرار انسحاب الولايات المتحدة عسكرياً من سورية عام 2018 من دون إعداد للمشهد سيغير بشكل خطر وسريع المعادلات الأمنية والاستراتيجية في سورية والمنطقة وربما في العالم، إذ يبدو الوضع شديد الخطر ومفتوحاً فعلاً على احتمالات مخاطر استراتيجية على جبهات عدة، ولكي نلخص المشهد العالمي نتوقع التالي:
 
أولاً: تفاقم الحرب الأهلية السورية وتسليم الملف بكامله اليوم لروسيا وإيران، ما سيدفع هذه الدول إلى استكمال الحل العسكري من دون أي حل سياسي، مما يفتح الطريق لأعمال عسكرية بالغة الوحشية تؤدي لكوارث بشرية كون الوجود الأميركي خلق احتياجاً لكل من روسيا وإيران للبحث عن حل سلمي وهذا سينتهي الآن.
 
ثانياً: لن تتوقف طموحات إيران عند سورية، بل ستفتح هذه الخطوة من شهيتها التوسعية، بالتالي سنجد حتماً المزيد من النشاط الصفوي الإرهابي في اليمن وقد يمتد لدول الخليج العربي خاصة الكويت والبحرين.
 
ثالثًا: عودة خطرة لتصاعد نشاط طالبان في أفغانستان وداخل باكستان وتصعيد التحالفات بين طالبان والقاعدة وربما جماعة الإخوان أيضاً في المنطقة بأسرها.
 
رابعاً: زيادة في نوعية وكمية الانتشار الجغرافي للأنشطة الارهابية في المنطقة تقوم بها داعش أو من جماعات جديدة ستظهر حتماً على السطح.
 
خامساً: تحول الهلال الصفوي إلى حقيقة سياسية وجغرافية عبر زيادة سيطرة وتداخل إيران اقتصادياً واستراتيجياً مع الدول العربية التي تقع تحت احتلالها، وتحول هذه الدول إلى توابع سياسية وطائفية لها وتطويق الجزيرة العربية.
 
سادساً: زيادة قدرة إيران على تجنب التأثيرات السلبية للعقوبات الأميركية عبر استخدامها لخيرات وأراضي هذه الدول ومؤسساتها السياسية والعسكرية والمالية للالتفاف على العقوبات عبر تهريب الأموال والنفط والسلع المحظور استيرادها على إيران عبر أراضي وموانئ هذه الدول.
 
سابعاً: زيادة كبيرة في انتشار الصواريخ بالمنطقة، وزيادة الجرأة في تصنيعها واستعمالها أو التهديد بها ضد دول المنطقة.
 
ثامناً: زيادة التوتر بشكل خطر على الحدود بين إسرائيل وجيرانها وزيادة في العمليات الجوية الإسرائيلية ضد المليشيات الإيرانية داخل سورية، ما سيفتح المنطقة على احتمالات مواجهات عسكرية قد تخرج عن السيطرة. تاسعاً: تزايد خطر في التهديد لأوضاع تركيا الأمنية الداخلية، مما ينذر بتدخل عسكري تركي في شمال سورية للسيطرة على الطموحات الانفصالية الكردية، وهو تدخل قد يتعقد ويأخذ وقتاً طويلاً وينذر بجر أكراد العراق للمعركة داخل سورة وقد تمتد لأكراد إيران وتركيا.
 
عاشراً: سيصبح الرئيس الروسي بوتين قيصراً جديدا في المنطقة وسيملك نفوذاً كبيراً ومتعاظماً في الشرق الأوسط وساحل البحر المتوسط بكاملة، بما فيه من مكامن ومركز نقل وتخزين وتوزيع للغاز طبيعي، وما لذلك من تأثير كبير على مستقبل واستقلالية قرار القارة الأوروبية.
 
الحادي عشر: تدمير صدقية الولايات المتحدة في العالم بعد انحسار الوجود الأميركي، وستزداد قناعة الأطراف السياسية المختلفة بجدوى توسيع التفاهم مع روسيا أكثر من الولايات المتحدة بسبب استقرار وعقلانية وعبقرية السياسة الروسية في مقابل السياسة الأميركية الفاقدة للرشد، وهذا لن يكون قاصراً على الشرق الاوسط، بل قد يمتد لحلفاء أميركا في الشرق مثل كوريا واليابان، ولعلنا نرى بعض التوسع في العلاقات الكورية واليابانية مع روسيا والصين وتعاظم نفوذهما في الشرق الأقصى. الثاني عشر: سيصبح «طريق الحرير» الجديد حقيقياً، فيمتد من الصين عبر أراضي الباكستان وأفغانستان وإيران ثم العراق وسورية حتى البحر المتوسط حقيقة واقعة تزيد بشكل رئيس من النفوذ الاقتصادي الصيني في أوروبا والعالم.
 
الثالث عشر: خلق سابقة خطرة ستقود إلى ضعف متزايد في الثقة المتبادلة بين شاطئي الأطلسي قد تمتد لعلاقات الالتزام بين دول الناتو، ما سيدفع أوروبا لزيادة الاعتماد على قواها الذاتية واستقلالية قرارها، وربما إدخال أعضاء جدد لتعويض قلة الاعتمادية التي تبديها السياسة الأميركية نحو حلفائها والتزاماتها التقليدية.
 
من الواضح أنه أصبح من المستحيل على دول الخليج استمرار الاعتماد على من لا يُعتمد عليه أو على قوى أصبحت أكثر خطراً على أصدقائها من أعدائها، وسيكون على القوى الخليجية تعلم العِبر من الأحداث الخطرة الحالية والمبادرة بصياغة معادلات جديدة لضمان أمنها القومي تعتمد في جوهرها على مبدأ عالم متعدد الأقطاب وأوجه المخاطر بغض النظر عن شكل التحالفات التي اعتمدنا عليها تاريخياً، فالعبرة في التحالفات ليس فقط في وجود حليف سابق قوي، بل في مدى إمكان الاعتماد على هذا الحليف وقت الحاجة.
 
* باحث في الشؤون الدولية.

التعليقات معطلة.