الصراع العميق في القوقاز ستفرضه الطموحات المتعارضة بين روسيا وتركيا وإيران
طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
نقطة تفتيش عليها لافتة بالعلم الأذربيجاني وعلم روسي يرفرف قرب بلدة شوشا في “قره باغ” (أ ف ب)
في 24 ساعة، أنهت أذربيجان صراعاً مع أرمينيا استمر نحو 30 عاماً حول إقليم ناغورنو قره باغ وحق السيادة عليه.
زاد ذلك الصراع في توترات القوقاز التاريخية وأدى إلى قيام جبهات وتحالفات. ووصلت العلاقات بين إيران وأذربيجان إلى حافة النزاع المسلح، وفيما وقفت طهران إلى جانب أرمينيا، دعمت تركيا بكامل قوتها جمهورية أذربيجان، وحافظت روسيا على علاقتها التقليدية مع أرمينيا، حيث لها قاعدة عسكرية كبيرة، إلا أنها واصلت في الوقت نفسه صلات ودية مع باكو، الأمر الذي سمح لها بأن تكون وسيطاً وقوة سلام في حرب عام 2020، إلى جانب أنقرة، واستمرت في هذا الدور إلى أن قرر الرئيس الأذري إلهام علييف، الأسبوع الماضي، شن عمليته ضد “الإرهاب” في الإقليم لإخضاعه نهائياً لسلطته.
كانت أرمينيا اعترفت بعد الحرب الأخيرة، قبل ثلاث سنوات، بسيادة أذربيجان على قره باغ. وتحدث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان الحاكم منذ 2018 عن الأمر مرات عدة. بات المناخ في أرمينيا شبه مهيأ للتخلي عما اعتبر يوماً إقليماً يختصر الوطنية الأرمنية. رئيس الوزراء باشينيان الذي اتهمته المعارضة في 2020 بالانهزام أمام أذربيجان، عاد وفاز في الانتخابات العامة، وعندما بدأت باكو عمليتها “الخاصة” اكتفت يريفان ببيان يندد بـ”عدوان واسع النطاق يهدف إلى تطهير عرقي”، مؤكدة أن لا جنود لها في الإقليم.
شنت أذربيجان هجومها مع افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة أعمالها في نيويورك، يوم الثلاثاء الماضي. مساء ذلك اليوم أبلغ علييف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن “العملية ستتوقف في حال سلم الانفصاليون الأرمن أسلحتهم وكانوا منزوعي السلاح”. تلقى بلينكن الاتصال فيما كانت القوات الأميركية تجري تدريبات مشتركة في أرمينيا مع القوات الأرمينية بإطار “إيغل بارتنر 2023”. انطلقت هذه التدريبات قبل الهجوم الأذري بيوم واستمرت حتى بعد انتهائه.
صباح الأربعاء الماضي، دعت موسكو إلى “وقف فوري لإراقة الدماء وإنهاء الأعمال العدائية ووضع حد للخسائر المدنية”، وقالت تركيا إن “العملية العسكرية الأذرية مبررة، مطالبة “بالعودة إلى التفاوض، وهو ما ألحت عليه روسيا، وعلى مسرح الجمعية العامة كانت فرنسا الأعلى صوتاً، إذ طلبت عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي واعتبرت العملية الأذربيجانية غير شرعية وغير مبررة وغير معقولة”. وعقد الاجتماع الدولي ليستمع إلى اتهامات متبادلة بين باكو ويريفان تحت سقف حماية المدنيين ومن دون طموحات كبرى.
بدا من ردود فعل دول القوقاز الثلاث أن هناك قبولاً ضمنياً بنتيجة العملية الأذربيجانية. تركيا تدعمها بقوة، وأرمينيا تعترف بسيطرة أذربيجان في الإقليم، وباكو استعادت ما تعتبره وحدتها الإقليمية. مع ذلك ثمة أسئلة حول مستقبل الصراع في القوقاز تطرحه حسابات القوى الإقليمية في ظروف الصراعات الدولية المحيطة. وجواباً عن هذه الأسئلة تجدر العودة إلى الرؤى المختلفة التي تتحكم، خصوصاً، بمواقف كل من روسيا وتركيا وإيران.
اقرأ المزيد
- 1050 هاربا من “قره باغ” يدخلون أرمينيا
- أذربيجان استغلت ظرفا دوليا للسيطرة على قره باغ
- ناغورنو قره باغ… من الحصار إلى القتال
- ماذا تقول الجغرافيا والتاريخ عن نزاع قره باغ؟
تتمسك روسيا بعلاقتها مع أرمينيا على رغم انتقاداتها الضمنية والمعلنة ليريفان نتيجة ميل قيادتها إلى تحسين روابطها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي المعركة الأخيرة لاحظ خبراء روس أن أرمينيا لا تميل إلى مواجهة عسكرية مع أذربيجان، وبعضهم ذهب إلى القول إن باشينيان “أثار الحرب لتبرير خسارة قرة باغ والخروج من العلاقة مع روسيا”. في المقابل لا تثق موسكو بالمعارضة الأرمينية التي نظمت تظاهرات ضد باشينيان “فالمعارضون مشغولون بكلام فارغ. العديد منهم يلوم روسيا على عدم خوضها الحرب بدلاً منهم… لا بديل لباشينيان سوى روبرت كوتشاريان، فهو من قرة باغ وقد أخذوا وطنه منه”!.
لكن روسيا لا تريد حرباً مفتوحة تخسر في نهايتها أرمينيا وأذربيجان وتفتح الباب أمام طموحات منافسيها الإقليميين اللدودين، خصوصاً تركيا وإيران، للتحكم بجنوبها الحيوي. ستحافظ موسكو على دورها كوسيط وحافظ للسلام وهو ما فعلته في المعركة الأخيرة على رغم خسارتها خمسة من عسكرييها في اعتداء أذربيجاني. على الفور اتصل الرئيس الأذري إلهام علييف بنظيره الروسي فلاديمير بوتين معزياً وأبلغه اتخاذ تدابير بحق المعتدين وقائد الفرقة العسكرية التي ينتمون إليها.
تحرص روسيا على علاقتها بأذربيجان حرصها على صداقتها مع أرمينيا، فهي ترى في البلدين ومعهما جورجيا الممر الإلزامي لمشروعها الطموح لطريق الشمال الجنوب الذي يصلها بإيران والهند، وستزداد الحاجة إلى هذا الممر مع احتمالات تزايد الحصار على روسيا من البحر الأسود وصولاً إلى بحر البلطيق. وتولي موسكو عناية خاصة للعلاقات الشخصية التي تربط بوتين بعلييف، وفي الأيام الأخيرة أعادت التذكير بأن والد علييف، حيدر، الرئيس التاريخي لأذربيجان، كان مثل بوتين ضابطاً في الـ”كي جي بي”، قبل أن يتولى قيادة هذا الجهاز في أذربيجان السوفياتية التي ستستقل ويصبح رئيساً لها على مدى عقود.
في المقابل تحظى باكو بدعم تركيا الأردوغانية بوصفها ممر أنقرة إلى عمقها في آسيا الوسطى. ووقفت أنقرة إلى جانب باكو في الحرب على ناغورني قرة باغ، وأرسلت جنوداً قاتلوا إلى جانب حليفتها، وبعد هدنة 2020 انخرطت الشركات التركية في بناء مطار خاص في الإقليم والممر التاريخي (زانغزور) الذي يربط أذربيجان بتركيا عبر أراض أرمينية.
يثير هذا الترابط الأذري التركي قلق إيران العميق. وكتب محلل إيراني أن “العملية التي شنتها أذربيجان. دقت أجراس الإنذار في طهران أكثر من أي وقت مضى، إذ تأكد أن باكو وبمساعدة أنقرة وتل أبيب تسعى إلى قطع طريق إيران مع أرمينيا وأوروبا ووضعها في معضلة جيوسياسية جديدة”.
في التحليل الإيراني أن “المستفيد من حرب باكو هي تركيا”، وإذا أضيف إلى الوقائع أن وفداً عسكرياً إسرائيلياً برئاسة مدير وزارة الدفاع كان في باكو عشية العملية في قره باغ، فإن إيران ستستطرد لاتهام إسرائيل بالعمل لمحاصرتها من الشمال.
مع ذلك لم تكن ردود الفعل الإيرانية على العملية متوترة. ربما لم يكن حضور وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو إلى طهران وقت حصولها صدفة. فالضيف الروسي أجرى محادثات مع العسكريين الإيرانيين اتسمت بالحرص الدبلوماسي على تخفيف التوتر والحلول السلمية بين جارتيهما، لكن بحثهما الفعلي تركز على ما سيلي الانتصار الأذري التركي. أكدت موسكو وطهران في المناسبة على “المستوى الجديد” في علاقتهما. وبحسب الخبير العسكري الروسي القريب من وزارة الدفاع ألكسي ليونوف تناول الجانبان “التعاون العسكري التقني” و”الإعداد لاتفاقيات تعمل بموجبها روسيا وإيران كضامنين للأمن في الشرق الأوسط والقوقاز”.