قصة العراق وسوريا: من دكتاتورية البعث الى الفوضى والتطرف

8

 

تحولات عميقة أم استبدال لأدوات الهيمنة؟

 

شهدت منطقتا العراق وسوريا، خلال العقود الأخيرة، تحولات جذرية أثرت في طبيعة الأنظمة الحاكمة والمشهد السياسي العام. انتقلت الدولتان من حكم دكتاتوري استبدادي تحت مظلة حزب البعث إلى فوضى وتطرف ديني تُجسدها الجماعات الإسلامية المسلحة. هذه الرحلة، التي مزجت بين الاستبداد القومي والصراع الطائفي، تثير تساؤلات حول طبيعة التحول ومدى تأثيره على استقرار المنطقة ومستقبل شعوبها.

 

البعث: استبداد قومي تحت شعار الوحدة

حكم حزب البعث في العراق وسوريا لعقود، حيث أسس النظامان تحت شعارات قومية مثل الوحدة والحرية والاشتراكية. لكن هذه الشعارات لم تتجاوز الخطاب النظري، فقد انقلبت الأنظمة إلى أدوات قمع واستبداد، سيطرت على مفاصل الدولة بالقوة والهيمنة العسكرية.

في العراق، كان نظام صدام حسين نموذجاً للدكتاتورية الشمولية التي ارتكزت على القمع السياسي والطائفي، مع سحق أي معارضة سياسية تحت مسمى الحفاظ على الاستقرار. أما في سوريا، فقد استمر حكم عائلة الأسد عبر عقود من الخوف والترهيب، معتمدين على الأجهزة الأمنية لقمع أي أصوات معارضة.

 

الغزو الأمريكي: بداية الفوضى في العراق

كان غزو العراق عام 2003 نقطة تحول كبيرة، حيث أدى سقوط النظام البعثي إلى فراغ سياسي استغلته القوى الطائفية والجماعات المسلحة. سعت الولايات المتحدة إلى بناء نظام ديمقراطي، لكنها فشلت في فهم التعقيدات الاجتماعية والطائفية في العراق.

في ظل هذا الفراغ، صعدت الأحزاب الإسلامية المدعومة من إيران، مما أدى إلى تقسيم المجتمع العراقي على أسس طائفية. هذا الانقسام أفسح المجال لظهور تنظيمات مثل “داعش”، التي استغلت ضعف الدولة والفوضى السياسية لتأسيس خلافة مزعومة.

 

سوريا: الثورة والصراع الطائفي

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، حاول الشعب السوري التخلص من نظام الأسد، إلا أن النظام لجأ إلى استخدام العنف الوحشي. مع تصاعد الصراع، تحولت الثورة إلى حرب أهلية استغلتها جماعات إسلامية متطرفة مثل “جبهة النصرة” و”داعش”، التي سيطرت على أجزاء واسعة من البلاد.

النظام السوري، بدعم من إيران وروسيا، نجح في استعادة معظم الأراضي، لكن البلاد لا تزال تعاني من انهيار اقتصادي وانقسام سياسي عميق.

 

الإسلام السياسي: حل أم مشكلة؟

مع انهيار الأنظمة البعثية، ظهرت قوى الإسلام السياسي كبديل للفراغ السياسي، لكنها فشلت في تقديم نموذج حكم مستقر وعادل. فبدلاً من بناء أنظمة وطنية جامعة، انقسمت البلاد على أسس طائفية، وأصبحت مسرحاً لصراعات إقليمية ودولية.

 

سؤال المستقبل

يبقى السؤال الأهم: هل كان الانتقال من الدكتاتورية البعثية إلى الإسلام السياسي المتطرف تحولاً حتمياً؟ أم أن القوى الدولية والإقليمية لعبت دوراً في توجيه هذه التحولات؟

الأمر الواضح أن الشعبين العراقي والسوري هما الضحية الأكبر لهذه التغيرات، إذ عانيا من عقود من الاستبداد والفوضى. اليوم، يتطلع الشعبان إلى مستقبل يتجاوز الاستبداد والتطرف نحو بناء دول ديمقراطية وطنية تُلبي تطلعاتهم في الحرية والعدالة .

 

لماذا يجري حجب كامل للقوى الوطنية؟

القمع المستمر واستهداف القوى الوطنية في كل من العراق وسوريا هو نتيجة مجموعة من العوامل والدوافع التي تتعلق بالمصالح الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى سياسات الأنظمة الحاكمة والجماعات المسيطرة. لفهم هذا الوضع، يمكن تحليل الأسباب والدوافع على النحو التالي:

1. حماية الأنظمة القائمة واستمرار الهيمنة

خلال حكم حزب البعث، كان الهدف الأساسي هو القضاء على أي تهديد داخلي للنظام، سواء كان من القوى الوطنية، الحركات الديمقراطية، أو الأحزاب المعارضة.

 

القوى الوطنية، بسبب شعبيتها وقدرتها على تمثيل صوت الشارع، كانت تعتبر تهديدًا مباشرًا لشرعية النظام. لذلك، تم استهدافها بالقمع الممنهج والتصفية.

2. المصالح الدولية والإقليمية

الدور الدولي: القوى الكبرى، مثل الولايات المتحدة وروسيا، غالبًا ما تنحاز إلى الأنظمة أو الجماعات التي تخدم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

 

في العراق، بعد الغزو الأمريكي، كانت الأولوية هي تأمين نفوذ سياسي وعسكري، مما أدى إلى تمكين قوى الإسلام السياسي المدعومة إقليميًا على حساب القوى الوطنية.

 

في سوريا، كانت القوى الدولية تُفضل التعامل مع جماعات الإسلام السياسي كأدوات مؤقتة لتحقيق أهدافها في الصراع ضد نظام الأسد أو القوى الإقليمية الأخرى.

 

الدور الإقليمي: دول مثل إيران وتركيا والسعودية دعمت قوى الإسلام السياسي لضمان نفوذها في المنطقة، متجاهلة القوى الوطنية التي قد تُهدد مشاريعها.

3. الديمقراطية المزيفة كغطاء للقمع

في العراق، بعد الغزو، تم تقديم نموذج ديمقراطي ظاهري، لكنه كان مبنيًا على نظام طائفي ومحاصصة أعاق أي محاولة لبناء دولة وطنية جامعة.

 

قوى الإسلام السياسي، تحت هذا النظام، مارست القمع ضد القوى الوطنية التي حاولت كشف الفساد والطائفية، كما حدث خلال انتفاضة تشرين 2019، التي قوبلت بقمع دموي تحت أنظار المجتمع الدولي.

4. ضعف المؤسسات الأممية ودورها السلبي

المؤسسات الأممية غالبًا ما تتجنب التدخل في قضايا القمع الداخلي حفاظًا على توازن القوى الدولية.

 

في العراق وسوريا، لم تُقدم هذه المؤسسات أي دعم حقيقي للقوى الوطنية المعارضة، بل اعتمدت على التعامل مع الأنظمة القائمة والجماعات المسيطرة كأمر واقع.

 

5. تفضيل القوى الأيديولوجية والطائفية

القوى الوطنية تُشكل تهديدًا لأنها تدعو إلى بناء دولة مدنية ديمقراطية تُلبي تطلعات الشعب بعيدًا عن الهيمنة الطائفية أو الأيديولوجية.

 

قوى الإسلام السياسي، على الرغم من تطرفها، تعتبر أكثر سهولة في التوجيه والتلاعب من قبل القوى الدولية والإقليمية بسبب اعتمادها على دعم خارجي للبقاء.

لماذا لم يجري الدعم والتعاون مع القوى الوطنية؟

 

تهديدها للمصالح الدولية والإقليمية: القوى الوطنية غالبًا ما تتبنى خطابًا استقلاليًا يدعو لتحرير القرار الوطني، مما يجعلها غير مرغوبا بها لدى القوى الكبرى التي تسعى للهيمنة على موارد المنطقة وموقعها الاستراتيجي.

 

ان القمع الممنهج للقوى الوطنية في العراق وسوريا ليس صدفة، بل نتيجة شبكة معقدة من المصالح المحلية والإقليمية والدولية. ما لم يتغير هذا الواقع، ستستمر القوى الوطنية في مواجهة الإقصاء والتهميش، وسيبقى مستقبل الدولتين رهينة بيد أنظمة وقوى لا تعبر عن طموحات شعوبها. الحل يكمن في دعم دولي وإقليمي حقيقي للقوى الوطنية، وإعادة بناء الثقة الشعبية، وصولًا إلى أنظمة حكم تمثل إرادة الشعوب لا إرادة القوى الخارجية .

التعليقات معطلة.