قمة القاهرة 1995: حينما انقسم العرب حول “حظر الأسلحة النووية”

5

برقيتان بريطانيتان تكشفان كيف فشلت جامعة الدول العربية في التوصل إلى موقف موحّد في شأن معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية بعدما طلب الوفدان التونسي والعراقي مزيداً من الوقت للتشاور مما أجّل التوافق إلى وقت لاحق
حامد الكناني كاتب وباحث
طالب الرئيس مبارك بوضع آليات مناسبة تمنع النزاعات المستقبلية بين العرب (الأرشيف البريطاني)
ملخص
كانت الجلسات المغلقة أكثر سخونة، فقد تصدرت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية جدول الأعمال، وسط انقسام بين الوفود العربية، وأخفقت اللجنة السياسية بالجامعة العربية في التوصل إلى موقف موحّد، بعدما طلب الوفدان التونسي والعراقي مزيداً من الوقت للتشاور، مما أجّل التوافق إلى وقت لاحق
تكشف برقيتان بريطانيتان سريتان أرسلتا من السفارة البريطانية لدى القاهرة إلى وزارة الخارجية البريطانية وشؤون الكومنولث في لندن عام 1995، عن مشهد عربي مأزوم، يعيش تناقضاته بين طموح الوحدة وقيود الواقع، ذلك في وقت كانت فيه جامعة الدول العربية تحتفل بمرور نصف قرن على تأسيسها، بينما تتفاقم الخلافات بين أعضائها خلف الأبواب المغلقة.
تُظهر الوثيقتان، اللتان أُزيل الطابع السري عنهما في الـ19 من سبتمبر (أيلول) الماضي بعد ثلاثة عقود، لحظة مفصلية في التاريخ العربي الحديث: 50 عاماً من المحاولات والخيبات، حيث ظلّ حلم الوحدة يصطدم بجدران الانقسامات الداخلية، بين مقترحات الإصلاح المؤجلة، وتكتيكات العرقلة، والبيانات المتكررة عن “التضامن”، بدت جامعة الدول العربية عام 1995 وكأنها ترث كل أمراض العالم العربي: كثرة الاجتماعات، وقلة الإنجاز.
التحديات والرؤية المستقبلية
البرقية رقم 127 هي وثيقة سرية أرسلتها السفارة البريطانية لدى القاهرة إلى وزارة الخارجية والكومنولث في بريطانيا بتاريخ الـ23 من مارس (آذار) 1995، تتناول موضوع الذكرى الـ50 لتأسيس جامعة الدول العربية.
تُظهر البرقية طابعاً رسمياً ودبلوماسياً يعكس التواصل بين الممثلية البريطانية في مصر والجهات السياسية في لندن، وتضمنت تقريراً أو تحليلاً حول الفعاليات التي أقيمت بهذه المناسبة، والمواقف التي عبّرت عنها الدول العربية، إضافة إلى تقييم عام لدور جامعة الدول العربية بعد مرور نصف قرن على تأسيسها.
جاء في البرقية ما نصّه: احتفلت جامعة الدول العربية بيوبيلها الذهبي وسط أجواء من الشكوك حول جدوى استمرارها ودورها في العالم العربي، وكشفت البرقية تفاصيل دقيقة عن خلف الكواليس وما دار في الاجتماعات المغلقة، التي طغت عليها القضايا النووية والتوترات السياسية.
thumbnail_(1).jpg
شدد الرئيس مبارك على تعزيز التكامل العربي والسلام الإقليمي ودعا إلى مبادرات لتعزيز الأمن والمصالحة والثقافة (الأرشيف البريطاني)​​​​​​​
في الجلسة الافتتاحية، ألقى الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك خطاباً وصفته البرقية بـ”التاريخي”، أقر فيه بأن الجامعة لم تحقق ما كان يُؤمَل منها منذ تأسيسها عام 1945، لكنه شدّد على ضرورة عدم التقليل من شأنها، واقترح مبارك خطة من ثماني نقاط لإعادة الحيوية إلى العمل العربي المشترك، شملت تعزيز مكانة الجامعة، وتبني أهداف أكثر واقعية، ونهجاً تدرجياً للوحدة العربية، وزيادة التكامل الاقتصادي لمواجهة التكتلات العالمية، إضافة إلى الدعوة إلى نهضة ثقافية قائمة على التسامح والمصالحة.
اقرأ المزيد
هكذا قرأت بريطانيا عقل إسرائيل منذ التسعينيات
ماذا دار بين أمين الجامعة العربية والسفير البريطاني عام 1994؟
هل مهدت قمة العرب في 1967 لتعايش إسرائيل بالشرق الأوسط؟ (2-2)
وحذّر مبارك من أخطار سباق التسلح في الشرق الأوسط، مذكّراً بمبادرته السابقة لإنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، كما دعا إلى وضع “ميثاق شرف عربي” جديد يضمن آليات واضحة لمنع النزاعات بين الدول العربية واحتوائها قبل أن تتفاقم، مشيراً إلى أن تجاوز “كارثة أغسطس 1990” (في إشارة إلى الغزو العراقي للكويت) لن يتم بالنسيان، بل عبر معالجة منهجية لجذور الأزمات.
لكن خلف الخطابات الرسمية، كانت الجلسات المغلقة أكثر سخونة، فقد تصدرت معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية جدول الأعمال، وسط انقسام بين الوفود العربية، وذكرت البرقية أن اللجنة السياسية فشلت في التوصل إلى موقف موحّد، بعدما طلب الوفدان التونسي والعراقي مزيداً من الوقت للتشاور، مما أجّل التوافق إلى وقت لاحق.
السلام والقانون الدولي بين التأجيل والخلاف
ومن القضايا التي أُثيرت أيضاً، مشروع إنشاء “محكمة عدل عربية” الذي بدا أن مصيره التأجيل إلى الاجتماع التالي في سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، كما نجح الأمين العام للجامعة في إقناع السودان بسحب بند يطالب بمناقشة العقوبات الأممية المفروضة على العراق، لتفادي تفجّر الخلافات داخل القاعة.
أما في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية، فقد سجّلت البرقية أن لجنة جامعة الدول العربية السباعية أكدت دعمها للمقترح الليبي بإجراء محاكمة المتهمين في قضية لوكربي وفق القانون الاسكتلندي، لكن على الأراضي الهولندية، في خطوة اعتبرتها لندن آنذاك مؤشراً على مرونة ليبية غير مسبوقة.
thumbnail_(2).jpg
ناقش مجلس جامعة الدول العربية السلام ومحكمة عدل عربية ومعاهدة حظر الانتشار النووي (الأرشيف البريطاني)
كما شهد الاجتماع نشاطاً ملحوظاً للجنة التنسيقية لإعلان دمشق، التي ناقشت أوراق عمل مصرية وخليجية تحضيراً لاجتماع البحرين الوزاري المرتقب في يونيو (حزيران) 1995، وسط محاولات لإعادة تفعيل التعاون الدفاعي والسياسي بين دول الإعلان بعد أعوام من الفتور.
تُظهر البرقية البريطانية، التي بقيت طيّ السرية لأعوام، أن الذكرى الـ50 لجامعة الدول العربية لم تكن مناسبة للاحتفال فقط، بل كانت أيضاً مرآة تعكس التصدعات الداخلية، والقلق من المستقبل، والعجز عن صياغة موقف عربي موحد في زمن كانت فيه المنطقة على أعتاب تحولات كبرى.
جامعة الدول في مأزق وتأجيل القرارات الكبرى
البرقية الأخرى، التي تحمل رقم 512 هي وثيقة دبلوماسية سرية أرسلتها السفارة البريطانية لدى القاهرة إلى وزارة الخارجية والكومنولث في لندن بتاريخ الـ24 من سبتمبر 1995، تتناول وقائع الاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربية، الذي عقد في القاهرة يومي الـ20 والـ21 من سبتمبر من العام نفسه.
توضح البرقية أن الاجتماع فشل في التوصل إلى اتفاقات ملموسة نتيجة عدة عوامل، أبرزها الخلافات الثنائية بين الدول الأعضاء، ومحاولات متباينة لوضع تدابير تعزز قدرة الجامعة على حل النزاعات العربية الداخلية، إضافة إلى ما وُصف بتكتيكات كل من سوريا والعراق التي أسهمت في عرقلة سير العمل، وتشير البرقية كذلك إلى أن الهجمات اللفظية والسياسية على إسرائيل شكّلت الفرصة الوحيدة التي أظهرت فيها الدول العربية نوعاً من الوحدة خلال الاجتماع.
thumbnail_(3).jpg
فشل الاجتماع الوزاري لعام 1995 بالقاهرة في اتخاذ قرارات ملموسة بسبب الخلافات الثنائية (الأرشيف البريطاني)​​​​​​​
شهدت جلسة جامعة الدول العربية الأسبوع الماضي أجواءً توحي بأنها نسخة عربية من الاجتماعات الأوروبية المعقدة، حيث سيطرت الخلافات الحادة على مجريات النقاشات، وأبرزت الصحافة هذه الأجواء، مشيرة إلى “نقاشات حادة” بين الأمين العام وبين وفود حاولت عرقلة البنود الأساسية في جدول الأعمال.
وعلى رغم هذه التوترات، أعلن الأمين العام أن هناك “تقدماً” لم يُحدد طبيعته، فيما حاول وزير الخارجية المصري عمرو موسى تهدئة الإعلام، مؤكداً أن النقاش الصريح حول القضايا الصعبة يُعد نجاحاً بحد ذاته.
خلافات مستمرة أمام المبادرات الإصلاحية
في كلمته الافتتاحية، شدد الأمين العام عصمت عبدالمجيد على التهديدات التي يشكّلها الإرهاب والتعصب على التنمية والاستقرار في العالم العربي، ودعا إلى تعزيز التعاون الاقتصادي العربي البيني، مشيراً إلى أهمية قمة عمّان على حساب التعاون مع إسرائيل، وداعياً العراق إلى الامتثال لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كما أشاد بمقترحات الجامعة، التي أطلقها الرئيس المصري السابق مبارك، في شأن ميثاق شرف عربي ومحكمة عليا عربية، بهدف تعزيز تماسك المنطقة.
غير أن المقترحين لم يحرزا أي تقدم ملموس، فقد قدمت تونس مقترحاً لآلية حل النزاعات على غرار منظمة الوحدة الأفريقية، مدعومة سابقاً من اتحاد المغرب العربي، في مؤشر على صعود النفوذ الإقليمي الفرعي بعيداً من هيكل الجامعة التقليدي، وقد حظيت الفكرة بدعم واسع من بعض الدول، بما فيها السعودية، بينما تبنّت الإمارات موقف الحذر، وسعت سوريا، مدعومة من العراق، إلى تأجيل النقاش، معتبرة أن المقترح يتطلب إعادة صياغة معاهدة الجامعة نفسها ولا يمكن إقراره إلا على مستوى القمة، ورفض الأمين العام هذا الطرح، مؤكداً استحالة عقد قمة في الظروف الحالية.
thumbnail_(4).jpg
ركز الأمين العام على تهديدات الإرهاب وأهمية التعاون الاقتصادي والالتزام بمجلس الأمن (الأرشيف البريطاني)​​​​​​​
على صعيد الخلافات الثنائية، لم تكن الأجواء هادئة بالكامل، فبرزت مشاحنات بين ليبيا والفلسطينيين في شأن طرد العاملين الفلسطينيين، إضافة إلى خلافات بين مصر والسودان وسوريا والأردن وقطر والبحرين حول قضايا حدودية وسياسية حساسة، وفي نهاية الجلسة، عُرضت تصريحات رسمية تبدو إيجابية، لكنها اقتصرت على إعادة تأكيد المواقف التقليدية: انتقادات إسرائيل، والتضامن مع الفلسطينيين، ومواصلة مقاطعة بعض القضايا الإقليمية، إضافة إلى مقترحات التسوية في شأن لوكربي.
وأشارت السفارة البريطانية لدى القاهرة إلى أن معظم ما جرى التأكيد عليه في الاجتماع كان واضحاً من خلال الإعلام المصري، الذي لم يتجنب التركيز على الخلافات، وعلى رغم بعض النجاحات التي حققتها تونس واتحاد المغرب العربي في إدخال آلية لمنع النزاعات، ظل جوهر الاجتماع يدور حول ما لم يُتفق عليه، ليصبح رمزاً لاستمرار الانقسامات العربية، وهو ما جسّد حديث الأمين العام الصريح عن صعوبة عقد قمة مستقبلية.

التعليقات معطلة.