بينما تتأهب العاصمة العراقية بغداد لاستضافة القمة العربية في 17 مايو، تحط طائرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في المملكة العربية السعودية، في زيارة تتزامن مع قمة خليجية على مستوى عالٍ من الأهمية. تزامن الحدثين في التوقيت لا يُعَدّ مجرد مصادفة . بل يعكس سباقًا بين محورين عربيين للتأثير على مآلات ملفات المنطقة الكبرى، من القضية الفلسطينية إلى النووي الإيراني، وسط بيئة إقليمية معقّدة ومرحلة تاريخية فارقة.
ملفات واحدة… وقمتان متزامنتان
القمتان تتعاملان مع الملفات نفسها. المشروع النووي الإيراني، النفوذ الإيراني المهدد لاستقرار الأمن العربي، القضية الفلسطينية، ومستقبل العلاقات مع إسرائيل. إلا أن المقاربتين مختلفتان جذريًا، لا في الأهداف فقط، بل في المكان والرمزية.
قمة بغداد تُعقد في دولة تخضع منذ عام 2003 لنفوذ سياسي وعقائدي إيراني واضح، حيث أصبحت العاصمة منطلقًا لتمدّد طهران إلى عواصم عربية أخرى. العراق، رغم موقعه العربي، لم يعد فاعلًا مستقلًا في معادلة الأمن القومي العربي، وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة عن مدى قدرة قمة تُعقد في ظله على إنتاج موقف عربي موحّد تجاه إيران أو مواجهة تمدّدها في المنطقة.
ترامب في الخليج: عودة ثقيلة بمشاريع جريئة
في المقابل، تحمل زيارة ترامب إلى الخليج مؤشرات أكثر وضوحًا، ليس فقط في سياق الضغط الأقصى على طهران، بل في إعادة رسم خارطة التحالفات الإقليمية. فمن إعادة التأكيد على تسمية “الخليج العربي”، إلى تلميحات باعتراف أميركي قريب بالدولة الفلسطينية، كل ذلك يشير إلى توجّه أميركي نحو إعادة تفعيل “الناتو العربي”، هذه المرة بدعم مباشر وقوي من ترامب، وضمن تصور متكامل لأمن المنطقة، يضع إيران كتهديد مشترك، ويطالب في المقابل بتسريع وتوسيع دائرة التطبيع مع إسرائيل.
هذا التحول قد يُسدل الستار على واحدة من أعقد الأزمات في المنطقة، ويمنح العرب فرصة لتصفير التهديدات الأمنية المزمنة، ضمن تفاهمات استراتيجية برعاية واشنطن، وموافقة ضمنية من تل أبيب.
أول الغيث المطر
لم تكد طائرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تحط في الرياض حتى بدأت ملامح التحوّل تظهر سريعًا على شكل اتفاقات اقتصادية ضخمة بين واشنطن والرياض، عكست جدية الإدارة الأميركية في الانخراط مجددًا في ملفات المنطقة بثقل غير مسبوق. غير أن المفاجأة الأكبر تمثّلت في تصريح ترامب خلال كلمته في الرياض حين أعلن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا بشكل كامل، بناءً على طلب مباشر من ولي العهد السعودي.
ولم يقتصر المشهد على ذلك، بل استقبل ترامب رسميًا الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، الذي كان يُعرف سابقًا باسمه الحركي “محمد الجولاني”، قائد الفصائل المسلحة التي خاضت معارك عنيفة ضد نظام بشار الأسد، والذي كانت واشنطن نفسها قد صنفته سابقًا كـ”إرهابي”، ورصدت مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقاله.
هذا التحوّل الدراماتيكي، والذي لم يسبق له مثيل في السياسة الأميركية تجاه الملف السوري، لا يُمثّل مجرّد تسوية عابرة، بل نقطة تحوّل تاريخية تُعيد ترتيب المواقف والتحالفات في المنطقة، وتنقل الأطراف من خانة العداء إلى مسارات تفاهم جديدة، تحت مظلة مشروع استقرار أوسع ترعاه واشنطن والخليج، ويستهدف تصفير التهديدات، خصوصًا التمدّد الإيراني في المشرق العربي.
إن هذا التغيير في الموقف الأميركي لم يكن متصورًا قبل أكثر من عقد، بل لم يكن ممكنًا مطلقًا لولا التحوّل في المشهد الإقليمي والدولي، وصعود إرادة خليجية واضحة تتبنّى مشروع تسويات كبرى تمتد من دمشق إلى بيروت وبغداد.
الرسالة: الخليج لاعب رئيسي.. وواشنطن تنفذ
الرسالة التي حملها اللقاء كانت واضحة: الخليج بات مستعدًا للعب دور قيادي في صناعة التسويات، وواشنطن مستعدة للرد بخطوات عملية تعيد للدول العربية هامشًا أوسع من الحركة. وربما تكون هذه البداية مؤشّرًا على أن القمة مع بعض قادة دول الخليج مع ترامب، ليست مجرد استعراض سياسي، بل نقطة انطلاق فعلية لمرحلة جديدة من التفاهمات، قد تتسع لتشمل ملفات معقدة مثل لبنان واليمن وحتى العراق.
إنها لحظة تعكس ما يمكن أن يحدث عندما تلتقي الإرادة السياسية الجادة بالزخم الإقليمي والدولي: قرارات استراتيجية تتجاوز الشعارات، وتُترجم على الأرض بخطوات ذات تأثير مباشر. وإذا كان رفع العقوبات عن سوريا واستقبال الشرع هو أول الغيث، فإن المطر قد يكون سلسلة من التحوّلات الجذرية في موازين القوى الإقليمية، يبدأ بإزاحة كوابح النفوذ الإيراني، ولا ينتهي بإعادة تموضع شامل يعيد للعرب صوتهم ومكانتهم.
إشكالية التوافق من قلب بغداد
تبقى الإشكالية الأبرز في تناقض مسرح قمة بغداد مع مضامينها المفترضة فكيف يُمكن لقمة عربية في عاصمة النفوذ الإيراني أن تُنتج موقفًا عربيًا موحّدًا تجاه التهديد الإيراني نفسه؟ وكيف يمكن بناء مشروع عربي مستقل في ظل حكومة موالية سياسيًا وعقائديًا لطهران؟ هذه المفارقة تضع القمة في بغداد أمام تحدٍ وجودي: إما أن تتحوّل إلى منبر عربي حقيقي يعيد الاعتبار لأمن العرب، أو أن تُختزل في رسائل دبلوماسية لا تُغير في الواقع شيئًا.
فرصة نادرة أمام العرب: من التشتت إلى التأثير
العرب اليوم أمام لحظة استثنائية: رئيس أميركي حاسم ومستعد للدفع في اتجاه إعادة ترتيب المنطقة، مقابل واقع عربي مثقل بالانقسامات. القمتان، رغم اختلاف السياقات، تُشكّلان فرصة ثمينة لإعادة إنتاج موقف عربي موحد، يتجاوز الثنائية التقليدية بين المواجهة والتهدئة، نحو تحالف استراتيجي عربي–دولي يعيد رسم موازين القوى، وينقل العرب من موقع المتلقّي إلى موقع الفاعل.
الرهان اليوم ليس على قمة دون أخرى، بل على قدرة العرب على توحيد الموقف والرؤية، واستثمار اللحظة السياسية لصناعة مشروع أمن قومي جديد، بتحالفات دولية رصينة يعيد للعرب دورهم المفقود، ويضع حدًا لتمدّد إيران ونفوذها في العواصم العربية، بدءًا من بغداد نفسها.