مقالات

قمة بوتين أردوغان روحاني تحدد ملامح سورية الجديدة وتنهي حلم الأكراد في الاستقلال وتقطع علاقة تركيا بحلف “الناتو”

كتب / عبد الباري عطوان…

حسمت قمة أنقرة الثلاثية التي انعقدت انحياز روسيا بالكامل إلى الخندق التركي في قضيتين أساسيتين: الأولى منع الأكراد من إقامة كيانهم السياسي المستقل شمال سورية, والثانية رفض أي وجود أمريكي تحت ستار مكافحة الإرهاب.
البيان الختامي الذي صدر عن هذه القمة قطع خطوات رئيسية على طريق تعزيز التحالف الاستراتيجي بين القوى الثلاث, ووضع خريطة جديدة ليس لسورية فقط, وانما للمنطقة بأسرها.
لا نجادل مطلقا في أن البيانات الختامية لا تعكس جميع الاتفاقات السرية التي جرى التوصل إليها بين قادة الدول الثلاث جزئيا أو كليا, وخاصة اللقاءات الثنائية المغلقة, ولكن ما يمكن قراءته ما بين سطور البيان الختامي, أن محورا استراتيجيا ثلاثيا, يتعزز ويقوى, بزعامة دولة عظمى صاعدة بسرعة صواريخ “الكروز” وعضوية دولتين إقليميتين عظميين أيضا هما تركيا وإيران وسيكون لهذا المحور دور أساسي في ملفات الحرب والسلم في المنطقة, ومفتوحا لانضمام دول أخرى في طريقه للتعافي مثل سورية والعراق.
*
ثلاثة محاور مهمة وردت في البيان الختامي تؤكد ما ذكرناه آنفا:
الأول: التصدي للأجندات الانفصالية في سورية (الأكراد) التي تهدد وحدة وكيان البلد, وتهدف لإضعاف الأمن القومي لدول الجوار (العراق, تركيا, إيران).
الثاني: رفض خلق واقع جديد في سورية تحت ستار مكافحة الإرهاب, يهدف إلى استمرار الصراع, وهذه إشارة واضحة وصريحة لوجود القوات الأمريكية, وربما الفرنسية لاحقا, والقواعد العسكرية الدائمة, الأمريكية, والتحالف الكردي الأمريكي خصوصا.
الثالث: الالتزام بسيادة سورية واستقرارها, واعتماد منظومة سوتشي التي تشكل معلما لأي حل سياسي في سورية, والبحث عن تسوية دائمة فيها.
إذا انتقلنا إلى بعض التفاصيل يمكن القول أن الرئيس رجب طيب أردوغان حسم أمره وقرر وضع معظم بيضه, إن لم يكن كله, في سلة “صديقه” بوتين, وقرر تشكيل حلف استراتيجي مع روسيا, وإدارة الظهر لأمريكا والدول الأوروبية, وحلف “الناتو” تحديدا, ولو إلى حين.
قرار روسيا بتقديم موعد تسليم صواريخ “إس 400” إلى تركيا المقرر في تموز (يوليو) 2019 يؤكد التموضع الاستراتيجي التركي الجديد, وتوصل الرئيس أردوغان إلى “تفاهمات” غير مسبوقة مع نظيره الروسي, ربما تتضمن حلا سياسيا متفق عليه في الملف السوري يحتوي عدة قضايا صعبة مثل مستقبل مدينتي إدلب وعفرين الخارجتين عن السيادة السورية, وشكل الدولة السورية وهويتها وهيكليتها الجديدتان.
كان لافتا أن الوفد التركي الذي ترأسه الرئيس أردوغان في القمة أو اللقاءات الثنائية المغلقة ضم أركان الدولة التركية العليا, سياسيا وعسكريا وأمنيا, مثل رئيس هيئة أركان الجيش التركي الجنرال خلوصي آركان, ورئيس المخابرات الجنرال هاكان فيدان, ووزير الدفاع نور الدين جانيكلي, والخارجية مولود جاويش أوغلو, ومستشار الرئيس والعقل السياسي الاستراتيجي الدكتور إبراهيم كالن, خليفة أحمد داوود أوغلو, وهذه التركيبة توحي بالكثير.
توقيت إعلان تثبيت صفقة صواريخ “إس 400” الروسية لتركيا, وتقديم موعد تسليمها, وفي ظل وجود وفد عسكري أمريكي في أنقرة كان يريد عرقلتها, وتقديم عروض مغرية لتركيا لشراء صواريخ “باتريوت” البديلة, في نسختها الأكثر تطورا, جاء صاعقا للرئيس ترامب وإدارته وجنرالاته , ولا نستبعد أن تكون صفقة الصواريخ الروسية هذه هي التي رجحت كفة الجنرالات في المؤسسة العسكرية الأمريكية وضغوطهم لبقاء القوات الأمريكية في شمال سورية, انطلاقا من تكريس قناعة أساسية بخسارة الحليف التركي, والتمسك بالحليف الكردي كبديل في المنطقة.
الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي عقد بدوره لقاء مغلقا مع الرئيس بوتين, كان يمثل الحليف السوري, إلى جانب بلده إيران في هذه القمة, وعكس وجهة النظر هذه في تصريحات صحافية مقتضبة تؤكد أن الحليفين الإيراني والسوري حققا مكاسب كبيرة نلخصها في ثلاث أهداف:
الأول: التأكيد على أمن واستقرار سورية ووحدة أراضيها, والتزام الدول الثلاث بذلك.
الثاني: عودة اللاجئين السوريين إلى مدنهم وقراهم, ولا يمكن ان تحقق هذه العودة دون تحقيق هدنة أو وقف دائم لإطلاق النار.
الثالث: تحديد مستقبل سورية ومصيرها بارادة شعبها, وهذا يعني تكريس بقاء الدولة السورية برئاسة بشار الأسد.
*
ختاما نقول أننا أمام حلف سياسي عسكري أمني استراتيجي يتبلور قد يكون ندا لحلف “الناتو” ووريثا لحلف “وارسو” بنكهة إسلامية (شيعية سنية) ومسيحية أرثوذكسية, وهذا التزاوج الديني المذهبي التعددي ربما يكون أحد أسباب قوته, واستمراريته, خاصة أن احتمالات الصراع في المنطقة, في ظل حكومة الحرب التي أكمل نصابها الرئيس ترامب بإبعاد تيلرسون وماكماستر واستبدالهما بمايك بومبيو (الخارجية), وجون بولتون (الأمن القومي), تبدو كبيرة.

إنها قمة “الدهاة” الثلاثة, الذين يطبقون أجنداتهم ورؤاهم الاستراتيجية بطريقة محسوبة, ومن المؤلم بالنسبة إلينا أنه لا يوجد بينهم أي زعيم عربي, رغم أن قضايانا وهمومنا ومستقبل بلادنا تشكل كلها محور اهتمامهم.