حسين معلوم
يدفع انعقاد قمة ثانيىة في العاصمة الفييتنامية، هانوي، بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والكوري الشمالي كيم جونغ أون، بعد ثمانية أشهر، على القمة التي جمعت بينهما في سنغافورة، إلى التساؤل حول الجديد لعقد هذه القمة؟ والأهم، هل تحقق ما تم الاتفاق بشأنه، بين الرئيسين من قبل، لجهة موافقة كيم على نزع الأسلحة النووية من شبه الجزيرة الكورية، مقابل ضمانات أمنية، أو ـ في الحد الأدنى ـ هل تحققت خطوات عملية في هذا الاتجاه؟ ثم، أن يُصرح ترامب للصحافيين، قبل موعد القمة بأسبوع كامل، بأن: «هذه ستكون القمة الثانية (مع كيم)، ويمكن أن يأتي منها الكثير. نحتاج إلى نزع السلاح النووي في النهاية، لكنني لست متعجلاً فالعقوبات مفروضة»، فهذا، يطرح التساؤل حول العجلة في عقد قمة ثانية، طالما أن الإدارة الأميركية ليست متعجلة في نزع سلاح كوريا الشمالية النووي؟ والأهم، إذا تأملنا متابعة ترامب بالقول: «إن كوريا الشمالية يمكن أن تصبح قوة اقتصادية هائلة عندما يتم حل هذا الأمر. موقعها بين روسيا والصين وكوريا الجنوبية لا يُصدق»، فهذا، أيضاً، يطرح التساؤل حول الاستهداف الرئيس الذي تحاول الولايات المتحدة إنجازه، من خلال هذه القمم؟ أضف إلى ذلك، التساؤل الخاص بالدوافع الأميركية في التوجه شرقاً، عبر الإصرار على الحوار مع بيونغيانع، واستهداف البرنامج النووي لها، على الأقل قياساً إلى كيفية التعامل الأميركي مع دول نووية أخرى، كالهند وباكستان؟
هذه التساؤلات، وغيرها كثير، تدفع إلى القول: إن العقوبات الاقتصادية «المفروضة»، بحسب تعبير ترامب، قد تكون أحد العوامل الدافعة إلى تغيير موقف بيونغيانغ، وتحولها إلى طاولة المفاوضات؛ أحد العوامل، وليست العامل الأساسي، لأنه بالنظر إلى أسلوب وسياسة كوريا الشمالية في اتخاذ القرارات، فإن المشكلات الاقتصادية ليست مصدر القلق بالنسبة للنظام هناك؛ بل، إن الأهم هو الحصول على ضمانات أمنية من الولايات المتحدة الأميركية. يؤكد ذلك، الكيفية التي تتعامل بها بيونغيانغ مع الأميركيين؛ هذه الكيفية التي ترتكز على قاعدة عدم جدوى السياسة الأميركية بفرض التخلي عن سلاحها النووي من دون «شروط»؛ ففي رؤيتها، أن الصواريخ الباليستية، والرؤوس النووية، إنما تُمثل وسيلة ضرورية لحماية نظامها السياسي وضمان استمراريته.
ضمن هذه «الشروط»، التي طالما أعلنتها كوريا الشمالية، طوال سنوات، مطالب ثلاثة: إنهاء المناورات العسكرية، الدورية، بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وفك التحالف الاستراتيجي بينهما، إضافة إلى سحب الولايات المتحدة لقواتها المتمركزة في كوريا الجنوبية (منذ عام 1953). ومن ثم، فإذا كان الرئيس الأميركي، كما أصبح معروفاً عنه، يتعامل مع الملفات السياسية بنفس المنطق الذي يتعامل به مع «صفقات» التجارة والمال؛ فإن الرئيس الكوري الشمالي، يعتمد في حواره مع نظيره الأميركي على أن كوريا الشمالية هي دولة نووية بالفعل؛ فهي تمتلك رؤوساً نووية، والأهم أنها تمتلك الوسائل والإمكانيات القادرة على حمل هذه الرؤوس إلى مناطق تتهدد فيها المصالح الأميركية الحيوية. ويكفي أن نشير، في هذا المجال، إلى ما ألمحت به شبكة «CNN» الأميركية (21 يناير الماضي)، من أنه: «في عام 2017، أفادت تقارير أميركية بأن كوريا الشمالية تمتلك نحو 60 رأساً نووياً، ومنذ ذلك الحين لم ترد أي معلومة عن أن نظام كيم أوقف إنتاجه». ورغم تفكيك بيونغيانغ موقعاً لإجراء التجارب النووية، وأنها لم تنفذ أي تجارب صاروخية منذ قمة سنغافورة؛ إلا أن الواقع يؤكد أن الغموض لا يزال يحيط بتفصيلات البرنامج النووي، وبرامج تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، لكوريا الشمالية.
هكذا، إذاً، تنعقد القمم، بين ترامب وكيم، على قاعدة علاقات القوة، في الاستهداف الأميركي للتوجه شرقاً. إذ إن علاقات القوة هذه تبدو بوضوح في هذه القمم، أو بالأحرى في العوامل الدافعة إلى إنعقادها. صحيح أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على كوريا الشمالية، مثلت ـ بالطبع ـ أحد العوامل في «موافقة» كيم جونغ أون على نزع السلاح النووي؛ لكن يبقى من الصحيح، أيضاً، أن لهذه الدولة حلفاء فاعلين على ساحة العلاقات الدولية، هما الصين، وروسيا الاتحادية وإن بدرجة أقل.
ومن ثم، فالمصالح الاستراتيجية لهذين الحليفين تفرض عليهما عدم السماح، مُطلقاً، باستخدام القوة ضدها، حتى لا تتأثر موازين القوى في منطقة تُمثل بالنسبة إلى كليهما «منطقة حيوية» من المنظور الجغراستي (الجغراستراتيجي). فلماذا، إذاً، الإصرار الأميركي على التفاوض مع كوريا الشمالية، وما هي الدوافع الأميركية في التوجه شرقاً؟
لنا، هنا، أن نلاحظ أن رؤية ترامب لمستقبل كوريا الشمالية كـ»قوة اقتصادية هائلة»، لا يعدو أن يكون محفزاً للاستهداف الرئيس، ذلك الذي أشار إليه ترامب نفسه، حينما قال: «موقعها بين روسيا والصين وكوريا الجنوبية لا يُصدق». إنه، في نظرنا، بيت القصيد في المحاولات الأميركية لأجل أن تكون يدها، أي اليد الأمريكية، هي العُليا في تحويل كوريا الشمالية إلى نموذج جارتها الشقيقة كوريا الجنوبية؛ ومن ثم، التمركز، مادياً واستثمارياً أكثر منه عسكرياً، في شبه الجزيرة الكورية، التي تعتبر أحد المفاتيح المهمة في الاقتراب من الصين، ليكتمل السور الدائري الذي تم بناؤه عقب الحرب العالمية الثانية، من حلفاء الولايات المتحدة، بداية من اليابان وصولاً إلى الفلبين ومروراً بكل من تايوان وكوريا الجنوبية.
وبالتالي، فإن ما يجري في شبه الجزيرة الكورية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتفاعلات الاستقطاب الدولي في ما بين الولايات المتحدة الأميركية، وبين الصين، فضلاً عن روسيا. إذ، تُعد الصين الحليف الاستراتيجي ـ والاقتصادي ـ الرئيس لكوريا الشمالية، منذ أن اختارت الانحياز إليها إبان الحرب الكورية (1950 – 1953)؛ بل، إن التخوف الصيني من تداعيات أي خطوات أميركية لإثارة التوتر على حدودها مع شبه الجزيرة الكورية، كالعواقب الإقليمية واحتمال تدفق اللاجئين، ناهيك عن عدم إمكانية السيطرة المُحكمة على ترسانة كوريا الشمالية النووية، هذا في حال التدخل العسكري أو محاولة تغيير النظام، كل ذلك يدفع بالتحالف الاستراتيجي بين بكين وبيونغيانغ إلى أقصى الحدود الممكنة. وفي ما يبدو، هكذا، فإن الصين هي الحاضر الفاعل في دفع الطرف الكوري إلى التفاوض مع الأميركيين. وهو أمر منطقي، من منظور أن الصين يمكنها استخدام ورقة كوريا الشمالية في القضايا الخلافية مع واشنطن، بداية من مسائل التجارة ووصولاً إلى التنافس في بحر الصين الجنوبي، مروراً بإشكالية تايوان.
في هذا السياق، كحد أدنى في رسم بانوراما العلاقات الأميركية بكل من الكوريتين، وبوضعية الاستقطاب الدولي الحاصل هناك، يتبدى بوضوح مدى التعقيد الذي ينتاب أبعاد وزوايا التوجه الأميركي شرقاً، إلى شبه الجزيرة الكورية، نتيجة ارتباطها بمصالح قوى دولية كبرى، تضع نصب أعينها أن تحجز لها مكاناً في قيادة النظام الدولي؛ بل، وتعرف كيف تستثمر «أوراق» القوة التي تمتلكها.
• كاتب مصري