اقتصادي

“قوت الليبيين” يرزح تحت وطأة المساومات… و”النهار العربي” يبحث الأسباب والتداعيات

ميناء البريقة النفطي في ليبيا/ AFP

محمد خالد 

يرزح قطاع النفط الليبي تحت وطأة مجموعة واسعة من التهديدات والتحديات المتزامنة خلال أكثر من عقد، وفي ضوء الاضطرابات التي تشهدها البلاد على نحو واسعٍ.

من بين أبرز تلك التحديات ما يتعلق بالاحتجاجات والتهديدات المتكررة بإغلاق الحقول النفطية، ومع استخدام أطراف مختلفة النفط كورقة ضغط للحصول على عديد من المكاسب، بما في ذلك محتجون من الأهالي في ضوء معاناتهم -لا سيما في الجنوب- من أوضاع اقتصادية صعبة، ومع ضعف الخدمات العامة والأساسية، وتزايد عمليات تهريب الوقود.

وفي هذا السياق، وبينما انتهت الجمعة 12 كانون الثاني (يناير)، المهلة التي حددها محتجون هددوا بإغلاق منشأتين للنفط قرب العاصمة الليبية، هم مجمع مليتة ومصفاة الزاوية، تم الإعلان عن تمديدها 24 ساعة إضافية -تنتهي عصر السبت- من أجل “إجراء محادثات مع وسطاء”، طبقاً لما ذكره متحدث باسم المجموعة -التي تطلق على نفسها اسم حراك استئصال الفساد- في تصريحات نقلتها عنه وكالة رويترز.

تضمنت مطالب المحتجين إقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط، فرحات بن قدارة. وبحسب المتحدث باسم المجموعة، في تصريحاته المشار إليها، فإنه “إذا لم يتم التوصل لاتفاق على جميع مطالبهم -خصوصاً إقالة بن قدارة وإلغاء قراراته- سوف يقومون بغلق المنشأتين المذكورتين.

ويمكن لإغلاق مجمع مليته (مشروع مشترك بين شركة إيني الإيطالية ومؤسسة النفط الليبية الرسمية) أن يعطل إمدادات الغاز عبر خطوط أنابيب GreenStream الرابط بين ليبيا وإيطاليا.

وكان محتجون في منطقة فزان (جنوب البلاد)، قد أغلقوا الأسبوع الماضي حقل الشرارة (من أكبر الحقول في البلاد، تصل قدرته الإنتاجية إلى 300 ألف برميل يومياً، وهو هدف مستمر للاحتجاجات) مطالبين بتحسين الخدمات، الأمر الذي اضطر المؤسسة الوطنية للنفط إعلان حالة “القوة القاهرة” وتعليق إمدادات الخام إلى محطة الزاوية المرتبطة بالحقل، والتي تصل طاقتها الإنتاجية لقرابة الـ 120 ألف برميل يومياً.

تعكس تلك الشواهد جانباً من العقبات المتكررة التي يواجهها قطاع النفط في ليبيا، والذي يعد المصدر الرئيسي للدخل في البلاد، وفي ظل الاضطرابات الداخلية التي تعيق الإنتاج الليبي إلى حد واسع.

أسباب تصاعد الاحتجاجات

في تصريحات خاصة لـ “النهار العربي” يشرح خبير النفط الليبي، سالم الرميح، أبعاد تلك الاحتجاجات وارتباطها بالمشهد الاقتصادي العام، موضحاً أن هناك مناطق مختلفة شهدت تهديدات بإقفال الحقول النفطية خلال الفترة الماضية، تنوعت خلالها مطالب المحتجين.

الإغلاقات المختلفة لحقول النفط في ظل الاحتجاجات المتكررة تأتي في خطٍ متوازٍ مع مطالب مختلفة للأهالي؛ ففي مناطق الجنوب يطالب الأهالي بتوفير الوقود، ذلك أنه مع انتقال الوقود من مستودع مصراته إلى مستودع سبها إلا أن “عمليات التهريب التي تتم من الجنوب تحول دون وصول كل الطلبيات لمراكز توزيع الوقود في المنطقة الجنوبية”، وفق الرميح.

تضاف إلى ذلك مطالب أخرى مرتبطة بالطرق والبنية التحتية، علاوة على المطالب الخاصة بتوظيف أبناء الجنوب، وهي مطالب يصفها الرميح بأنها “مطالب شرعية لأهل الجنوب الذين يعانون من نقص في عديد من الأمور الحياتية”.

أما غرب البلاد، فإن الاحتجاجات كانت تنادي بإقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط فرحات بن قدارة، علاوة على مطالب تتعلق بالوضع البيئي، لجهة تضرر عدد من السكان المحللين إلى جانب مصافي النفط.

ويلفت الخبير الليبي إلى أثر تلك الاحتجاجات على الإنتاج النفطي في ليبيا (التي تمتلك أكبر احتياطيات مؤكدة من النفط الخام في أفريقيا بحوالي حوالي 48.8 مليار برميل)، مشدداً على أهمية الابتعاد عن “إقفال قوت الليبين”، في إشارة لحقول النفط، مع ضرورة استجابة الجهات التشريعية والتنفيذية لمطالب الأهالي والوقوف صفاً معهم.

اقرأ أيضا: النهار العربي اليوم: حرب غزة وحروب ايران… هل بدأ العد العكسي؟

وفي بلد لا يزال يغلفه الجمود السياسي، يواجه المشهد الاقتصادي مجموعة من التحديات المتزامنة، سواء الداخلية المرتبطة بذلك الجمود وتداعياته، وكذلك الخارجية الناجمة عن ارتدادات جائحة كورونا ثم الحرب في أوكرانيا وأزمات الطاقة والغذاء وغير ذلك، وحتى الكوارث الطبيعية، بالإشارة إلى الفيضانات التي ضربت شرق البلاد العام الماضي، تتزايد هشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل لافت.

ويعد قطاع النفط في القلب من تلك الاضطرابات التي تشهدها البلاد، بما في ذلك الصراعات السياسية والصراع الداخلي وحتى المطالبات والاحتجاجات الأهلية، ما جعله عرضه دائمة للإغلاقات التي كانت لها عواقب وخيمة.

وتشير تقديرات رسمية صادرة عن المؤسسة الوطنية للنفط في 2022، إلى أن حجم الخسائر الناجمة عن إغلاق المنشآت النفطية في شرق البلاد حوالي 3.5 مليار دولار.

ضعف النفقات الاستثمارية

في تصريحات خاصة لـ “النهار العربي”، يقول الخبير الاقتصادي الليبي، علي الصلح، إن تلك الاحتجاجات هي احتجاجات متواترة وليست جديدة، ترتبط بشكل مستمر بمطالبات أهلية بالتنمية في هذه المناطق، لا سيما أنها مناطق منتجة للنفط وتمثل مصدراً رئيسياً للدخل الليبي.

ويشير إلى أن تلك الاحتجاجات قد تتواصل في المستقبل مادامت الأزمات لا تزال قائمة، لا سيما الأزمات المرتبطة بالبنية التحتية والصحة وقضايا وملفات التنمية المختلفة الأخرى (..)، موضحاً في الوقت نفسه أنه “رغم عودة بعض المشاريع التنموية في الفترة الأخيرة، إلا أن هناك عديداً من النواقص في النفقات العامة، لا سيما وأن الإنفاق الاستهلاكي أكبر من الاستثماري، وهو لب الأزمة الرئيسي”.

ويلفت الصلح إلى أن ليبيا تستهدف زيادة إنتاجها من النفط إلى مليوني برميل يومياً، وهو هدف تسعى إليه المؤسسة الوطنية للنفط، غير أن عدم توفير التمويل اللازم للاستثمارات الداعمة لتلك الزيادة وللنهوض بالقطاع الاقتصادي الوطني والعمل على القيمة المضافة للقطاع، هو ما أدى إلى تأخر ليبيا في هذا السياق، وفي ضوء غلبة النفقات الاستهلاكية.

تخطى إنتاج ليبيا من النفط 432 مليون برميل، وهو ما يمثل تقريباً 1.2 مليون برميل تقريباً، خلال العام المنصرم 2023، أي أقل من المستهدف من جانب المؤسسة الوطنية للنفط عند 1.3 مليون برميل يومياً خلال العام. فيما تضع المؤسسة هدفاً طموحاً بحلول العام 2030 لوصول حجم الإنتاج إلى 2 مليون برميل يومياً.

ويشدد الخبير الاقتصادي الليبي على أنه بموازاة ذلك يتعين أن تتواكب النفقات الاستثمارية المطلوبة مع نفقات أخرى لسكان وأهالي المناطق النفطية، ذلك أن “الاحتجاجات الراهنة متصلة بخلفيات أخرى متعلقة ببنود عديدة، مرتبطة بالرواتب على سبيل المثال، وهي أزمة حقيقية يواجهها الاقتصاد الليبي، لا سيما بعد تعديل سعر الصرف”.

وتحرم تلك الاضطرابات الليبيين من زيادة  عوائد القطاع الرئيسي الذي  يعتمد عليه اقتصاد البلاد بشكل كامل تقريباً.

وفي العام الماضي 2023، تراجعت إيرادات ليبيا من الخام لأدنى مستوى منذ العام 2020، مسجلة 99.1 مليار دينار ليبي (20.6 مليار دولار تقريباً)، وفق البيانات الصادرة بنهاية الأسبوع الأول من العام 2024 عن مصرف ليبيا المركزي.

تُقارن تلك الإيرادات  بـ 105.4 مليار دينار ليبي (22 مليار دولار تقريباً) إيرادات العام 2022، وحوالي 103.5 مليار دينار تقريباً في العام 2021.

4 تداعيات رئيسية

وليبيا واحدة من الدول ذات الأهمية الاستراتيجية في صناعة النفط والطاقة.. لكن منذ الإطاحة بنظام الرئيس معمر القذافي في العام 2011، شهدت البلاد فترات متقلبة من الصراعات والاضطرابات السياسية والأمنية، وعلى أثر ذلك “تأثر إنتاج النفط الليبي بشكل كبير نتيجة للاضطرابات الداخلية والصراعات المسلحة”، طبقاً للخبير الاقتصادي الليبي، الدكتور محمد الحمروني.

يحدد الحمروني، في تصريحات خاصة لـ “النهار العربي”، أربعة عوامل رئيسية تعكس تأثير الاحتجاجات والاضطرابات الأخيرة في ليبيا على إنتاج النفط.

أول تلك التأثيرات يرتبط بـ “تعطل الإنتاج”؛ على اعتبار أن  الاحتجاجات والاضطرابات تؤدي بدورها إلى تعطل عمليات الإنتاج والتصدير في المناطق النفطية، وبما يؤدي إلى انخفاض إنتاج النفط.

ثاني تلك العوامل، ما يتعلق بالتأثير على البنية التحتية، لجهة أن الصراعات والاحتجاجات “قد تؤدي إلى الدمار في البنية التحتية والمرافق النفطية، ما يتسبب في تأثير سلبي على القدرة الإنتاجية”.

كما يُبرز الخبير الاقتصادي الليبي في الوقت نفسه “تأثر الأسواق العالمية” ضمن أهم الآثار المحتملة لتصاعد تلك الاحتجاجات والاضطرابات التي تلف قطاع النفط في ليبيا، مشدداً على أن اضطراب إنتاج النفط الليبي “يؤثر على العرض العالمي للنفط، مما يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط عالميًا”.

أما العامل الرابع فيتعلق بالتأثيرات على الاقتصاد الوطني؛ باعتبار أن “إنتاج النفط يمثل جزءًا كبيرًا من اقتصاد ليبيا، لذلك فإن أي تأثير سلبي على إنتاج النفط قد يؤثر على النمو الاقتصادي واستقرار البلاد”.

وفي هذا السياق، ذكر تقرير بحثي نشره المركز المصري للفكر والدرسات الاستراتيجية، إلى أن من بين تداعيات الإغلاقات المتكررة لحقول النفط في ليبيا، ما يتعلق بالخسائر غير المباشرة في مصاريف التشغيل اليومية للموانئ والحقول النفطية من دون إنتاج فعلي، والأموال التي سوف تنفق على عمليات عودة الإنتاج لطبيعته، إضافة إلى ثمن شراء محروقات ومنتجات إضافية لكي يتم تغطية العجز الداخلي الذي يتعدّى أكثر من حوالي 45 في المئة من الاحتياجات اليومية، نتيجة لتوقف عمليات الإنتاج بالقوة القاهرة، ويُضاف إلى ذلك خسارة الخبرات النفطية الفنية والتقنية، سواء الأجنبية منها أو المحلية، التي تترك البلاد نظرًا لتوقف عمليات الإنتاج والتصدير وحالات عدم الاستقرار الأمني.
اقرأ أيضا: مؤسسة النفط الليبية تعلن القوة القاهرة في حقل الشرارة

فقدان الثقة

من جانبها، حذرت وزارة النفط والغاز الليبية، قبل أيام في بيان لها، من أن “فقدان الثقة في ديمومة تزويد السوق العالمية بالنفط الليبي، ينتج عنه أن يبقي النفط الليبي دون تسويق، أو يقل الطلب عليه”.

وتبعاً لبيان الوزارة، فإن “عواقب وتبعات إغلاق المنشآت النفطية كانت جد جسيمة على ليبيا، وقد يصعب حصر وبيان كل الأضرار والأخطار التي قد تسببها إقفالات اليوم لبعض الحقول النفطية وذلك لكثرتها وتنوع أشكالها”.

كما حذرت في الوقت نفسه من أن “عمليات إيقاف الإنتاج ثم إعادة فتح الحقول من جديد، وما يتطلبه من عمليات صيانة ومعالجة المشاكل الفنية لمعدات وآليات استخراج النفط وإنتاجه وتكريره، كل هذا يتطلب جهداً عريضاً ووقتاً طويلاً وتكلفة عالية تتحملها خزانة الدولة الليبية”.

لكن مدير مركز الأمة الليبي للدراسات، محمد الأسمر، يقول لدى حديثه مع “النهار العربي”، إن “الأهالي ليست لديهم ورقة ضاغطة سوى التهديد بإغلاق الحقوق، نتيجة لوعود قطعتها قبل ذلك الحكومة من خلال المؤسسة الوطنية للنفط بدعم أهالي المناطق (النفطية) وتمكينهم من الحق بالانتفاع من الأعمال القائمة، خاصة أنهم يعانون ظروف فقر مدقع، بينما تنبع الإيرادات النفطية الأكثر أهمية للاقتصاد الليبي من أراضيهم”.

ويضيف: “الأهالي يطالبون بتنفيذ الوعود، لا سيما فيما يتعلق بتأمين الحد الأدنى من العيش، ومساهمة الشركات النفطية وعبر المؤسسة الوطنية، في تطوير البنى التحتية وتوفير الأعمال، خاصة أن النظام الأساسي للمؤسسة يسمح بذلك”.

ويشير إلى أن تصاعد الاحتجاجات وعمليات الإغلاق هي عمليات متصلة ببعضها، ومتكررة في السنوات الأخيرة بشكل كبير، غير أن “اليوم هنالك معطى جديد، إذ يتزامن هذا الحراك مع ما دعا إليه رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، برفع الدعم عن الوقود والمحروقات، وبما أثار لغطاً كبيراً في الشارع الليبي”. وكان الدبيبة قد قال أخيراً إن القرار المذكور لا يزال قيد الدراسة.