طوال عام من الحرب في السودان، أثارت تصريحات الفريق ياسر العطا، مساعد قائد الجيش، جدلاً واسعاً سواءً بالهجوم على قوى داخلية أو دول إقليمية، بيد أنَّ سهامه هذه المرة قد امتدت إلى السلطة نفسها، مدافعاً عن المقاومة الشعبية التي حذر جنرال آخر في الجيش من عدم انضباطها، وموجهاً كذلك نقداً لاذعاً للوثيقة الدستورية التي تحكم البلاد منذ الإطاحة بحكم النظام السابق. وهذا كلّه يطرح جملةً من التساؤلات بشأن تماسك السلطة الحالية وخطورة أيّ شقاقٍ قد يصيب المؤسسة العسكرية.
ففي إفطار رمضاني بقاعدة وادي سيدنا الجوية شمال أم درمان، قال مساعد القائد العام للجيش وعضو مجلس السيادة الفريق ياسر العطا: “المقاومة الشعبية تذود عن حياض الوطن، وعلى كل الفاعلين في السودان الاصطفاف والانتظام فيها”. وأضاف: “لا تلتفتوا لما يقال حول المقاومة الشعبية، كلمات تذروها الرياح وأي عمل يصحح أثناء العمل”. ودعا الفريق إلى نوع من الهيكلة للمجموعات الشعبية التي حملت السلاح بعد سقوط ولاية الجزيرة، إذ لفت إلى أن “المقاومة الشعبية شقّ يقاتل في الميدان مع الجيش وشقّ يؤمّن الأحياء ويساهم في المهام المدنية في كل الجوانب”.
عدم اعتراف بالوثيقة الدستورية
وهاجم العطا أداء الحكومة، معلناً عدم اعترافه بالوثيقة الدستورية التي أقرت عام 2019 بين المكونات المدنية والمؤسسة العسكرية غداة عزل نظام الرئيس عمر البشير، داعياً للعودة إلى دستور عام 2005، ووصف مؤسسات الدولة بأنها مكبلة، متسائلاً “ماذا يفعل ديوان النائب العام، وداخل الديوان يوجد جنجويد، وبنك السودان بداخله جنجويد؟”.
وتأتي تصريحات العطا بعد أيام من تصريحات لعضو مجلس السيادة ومساعد القائد العام الفريق شمس الدين كباشي، الذي حذر من خطورة عدم انضباط المقاومة الشعبية، وشدد على الأحزاب السياسية في البلاد لعدم استغلال معسكرات المقاومة ورفع شعارات تخالف مبادئ القوات المسلحة. وهو ما اعتبره مراقبون بمثابة قرع لجرس الإنذار بين الرجلين، ما يشير إلى خطورة اشتباك محتمل تتعرض له المؤسسة العسكرية. وبدا لافتاً غياب قائد الجيش رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في الأيام الأخيرة، إذ ذكرت مصادر متابعة لـ”النهار العربي” أنه قد توجه لتركيا في زيارة غير معلنة بهدف الاطمئنان إلى نجله الذي تعرض لحادث سير مروع قبل نحو شهر في العاصمة أنقرة.
لا انشقاق ولكن تمرّد!
في حديث لـ”النهار العربي”، يقول مدير مركز آرتكل للدراسات عثمان فضل الله، إن الصراع في المؤسسة العسكرية قديم جداً وقد ظهر منذ الشهر الثاني من الحرب. و”يظهر ذلك من خلال تيارين، الأول يرى ضرورة التفاوض لإنهاء الحرب، والآخر منهجه المعلن هو استمرار الحرب حتى القضاء على الميليشيا (قوات الدعم السريع)”.
ويرى فضل الله أن الفريق كباشي “هو الأقرب للحل التفاوضي، ولكن وصول الأمر إلى مرحلة نقل الخلاف إلى العلن هو ما ينذر بالخطر”. ويشدد في الوقت نفسه على أن “القوات المسلحة بلا شك لا تحتمل أي هزات جديدة، والبلاد عموماً كذلك، لذا فإن الخلاف الحالي خطير ولا يقل خطورة – إن لم يكن أخطر – عن خلافات (قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو) حميدتي والبرهان التي أشعلت هذه الحرب”. ولكنه يستدرك أن تداعيات حديث العطا ستزيد من الاصطفاف الاثني والقبائلي، والذي نجت منه القوات المسلحة إلى حد كبير حتى الآن، ليلخص الموقف بعبارة: “لن يصل الأمر إلى انشقاق، ولكن ستحدث تمردات”.
في المقابل، يبدي الناطق الرسمي باسم التحالف الديموقراطي للعدالة الاجتماعية محيي الدين جمعة، إيجابية حيال كلام العطا، قائلاً في حديثه لـ”النهار العربي”: “نعتقد أنها جاءت في إطار تطوير أداء الجهاز التنفيذي والتشريعي بعد التقدم الملحوظ للقوات المسلحة في الخرطوم وفي بعض المواقع، الأمر الذي يتطلب أن يحدث تغيير موازٍ لذلك التقدم”. ويكشف جمعة أنه ومنذ بداية الحرب وحتى اليوم “لم تتجه الأجهزة النظامية بمواجهة العناصر المدنية التي لا تزال تدعم هذه الميليشيا من داخل المؤسسات القائمة، لذا نرى أنه لا بد من إصلاح أداء الدولة تجاه حسم التمرد”.
مصير الوثيقة الدستورية
ولكن هل لا تزال الوثيقة الدستورية قائمة كميثاق لإدارة السودان؟
يعتبر الكاتب والمحلل السياسي محمد تورشين أن الوثيقة الدستورية “ميتة من الطرفين”، بحسب قوله، موضحاً في حديثه لـ”النهار العربي” أن الطرفين هما “المؤسسة العسكرية وكذلك القوى المدنية في الحرية والتغيير التي راجعت موقفها السياسي لتطرح الاتفاق الإطاري في 2022”. ويرى تورشين أن تصرفات العطا قد جاءت في سياق تعقيد المشهد وإبعاد القوى السياسية التي سبق أن قدمت الوثيقة التي تم تعطيلها في أكتوبر 2021، بينما يأتي انتقاد العطا للعمل الحكومي من ناحية أن فيها عناصر من “الحرية والتغيير” وعناصر من القوى السياسية الأخرى التي أسهمت بشكل أو بآخر بعرقلة عمل الحكومة بسبب عدم الانسجام والتوافق بين الطاقم الحكومي سواءً على المستوى الاتحادي أو الولايات.
ويتفق جمعة مع رأي تورشين أعلاه بشأن الوثيقة الدستورية. فوفق حديثه ومنذ فك الشراكة بين القوى المدنية والمجلس العسكري في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، “لم يعد هناك حديث عن الوثيقة الدستورية 2019 رغم عدم إلغائها، فكل القرارات الحالية تصدر بموجبها وتعمل القوى السياسية المدنية والجيش بضرورة صياغة وتصميم وثيقة دستورية جديدة وكذلك إعلان سياسي جديد يضع الملامح ويحدد مهام الفترة الانتقالية الجديدة”، إذ يعتبر أن “سبب الحرب هو الاتفاق الإطاري والوثيقة الدستورية المقدمة من اللجنة التسيرية لنقابة المحامين السودانيين، وبمعاونة جهات أجنبية لم تشارك في إعدادها كل الأطراف”.