مقالات

قيادة الحياة في طريق مزدحم

خالد البري

خالد البريإعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي – عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».

القيادة الجيدة للسيارات شيء بسيط للغاية. التزم العلامات وحدودَ السرعة والحارة المرورية. تواصل بإشارات السيارة. ابقَ واعياً بما حولك، لا تنشغل أثناء القيادة، وتحسَّب للخطر. ليس في أي من هذه الأمور مهاراتٌ خارقةٌ، ولا مطلوب من الفرد العادي مهارات الفورميولا وان، أو تقليد مشاهد هوليوود.

المنطق نفسه ينسحب على السلوكيات المنتظرة من الفرد في مجتمع متحضّر. فلماذا إذن تبدو المهمة أحياناً مستحيلة؟ للسبب نفسه من الوجه المقابل. لأنَّ الانحدار إلى الحياة العشوائية لا يستلزم أكثرَ من إهمال مهارات على القدر ذاتِه من البساطة. إنَّما كون السلوكيات البسيطة فروقاً بين الحياة والموت، فهذا يعني أنَّها تستحق مزيداً من البحث في أسباب التخلي عنها. أقصد هنا الأسباب الذهنية، المشتركة مع غيرها من جوانب الحياة. وسأحاول أن أنتقلَ بالتدريج من مستوى إلى مستوى. أول الأسباب الجهل، ولا أعني به الجهل بالقواعد، بل الجهل بالجدوى والغرض. حين انتقلت إلى إنجلترا قبل زمنٍ كنت أسخر من رؤيةِ صف طويل من السيارات في حارة مرورية، بينما الحارة المجاورة سالكة، ومنسابة. أنظر إلى من حولي وأقول، «هؤلاء الإنجليز كائنات مبرمجة». أقصد أنَّهم لا يجيدون التفكير خارج الصندوق. ثم اكتشفت لاحقاً أنَّ ما قلته لم يكن أكثر من تباهٍ بالجهل، ناتجٍ عن عدم إدراكي للغرض. هذه السيارات مصطفة بصبرٍ في حارة معينة تنتظر دورها، حسب إشارةٍ سهميةٍ على الأرض، لكي تنثني إلى شارع فرعي. ولو أنَّها سارت في الحارة السالكة لتراكمت هناك أيضاً وسدتها، وتسببت في مشكلة أكبر. وقسْ على هذا علامات أخرى مثل الخطوطِ الصفراء المتقاطعة، التي يلزم أن تبقى خاليةً طوال الوقت، ويحظر على أي سيارة الوقوف فيها، حتى لو كانت الإشارة خضراء.

عدم احترام هذه القواعد والعلامات مشكلة، لكن يمكن حلها بتعميم الانضباط إن كنتَ تعرفها وتفهمها. أمَّا المشكلة الأكبر فغياب العلامات من الأصل. إذ يعني غياب المفهوم عن ذهنية المجتمع في مستوياته كلها. والمتوقع في هذه الحالة غياب مفاهيم حضرية أخرى مماثلة. مثل جدوى الرصيف، وحتمية الجراج، وأسلوب التخلص من النفايات، وأهمية زيادة الإيجارات مع التضخم لكي يتوفرَ التمويل اللازم لصيانة البنايات. في قيادة السيارات، يسبب إهمال الفروق المهارية البسيطة مشكلة ضخمة بالتراكم. على مستوى الفرد الواحد، لأنَّها كتلة كبيرة من مفردات بسيطة. وعلى مستوى المجتمع، لأنَّ الحضر الحديث مليوني التعداد، لو ألقى كل فرد فيه زجاجة فارغة لصارت كارثة. هذه الطبيعة التراكمية أحد أصعب مفاهيم الحضر استيعاباً لدى العقل البشري. الذي يتخيَّل الصرف الصحي بمعيار وحدته السكنية، أو بمعيار بنايته، أو على أقصى تقدير بمعيار الشارع الذي يسكن فيه. الخبراء فقط قادرون على استيعاب حجمه على مستوى عاصمة أو مدينة كبيرة. غاب أهل الخبرة غياباً فجائياً في دول التحرر الوطني، لصالح ذوي القربى، والنتيجة ما نرى.

ثاني الأسباب مرتبط نفسياً بما ختمت به أولها. الحمق. ولا أقصد هنا الحمق العارض الناتج عن سوء تقدير في لحظة جنون. بل الحمق الواثق من نفسه المادح لها، الذي يتحول إلى سلوك مجتمعي عادي كمرور ذبابة على فاترينة حلوى. هذا النوع من الحمق الذي نسميه فهلوة. ينشأ هذا الحمق من مظنة فرد أن سبْقَه إلى كسر القواعد روحُ مبادرة. أو أن عجزه عن التزام القواعد معجزة تخصه وتبرز كفاءته. فيقول لك واحدهم إنَّ من يقود سيارةً في شوارع عشوائية يستطيع أن يقودها في أي مكان. لا. غالباً يرسب في اختبار القيادة في لندن مرة بعد مرة بعد مرة. لأنَّ إتقان مهارة إتقانٌ لقواعدها الحاكمة.

وهذا النوع من الحمق المتفاخر له أصل نفسي هو شعور الاستحقاق، مظنة الفرد أنَّه محور الطريق، كما كان محور حياة أبيه وأمه. هنا تنشأ المتلازمة الغريبة التي جربها كثيرون منا. تجلس إلى جوار صديقك في السيارة، فيسبُّ ويلعن، ويتَّهمُ الآخرين جميعاً بأنَّهم يقودون سياراتهم كالأنعام، بينما لا تختلف طريقة قيادتهم للسيارة شيئاً عن طريقة قيادته. كلُّ الموضوع أنَّه لا يرى نفسه. ولا يجري عليها من الأحكام ما يسري على غيره. يشاهد الخطأ، والخطر، فقط حين يصدر من الغير.

أما ثالث القائمة، في هذه الدائرة المفرغة، فغياب المعيارية. العجز عن تقييم ما هو جيد من السلوك وما هو سيئ يقود إلى العشوائية، لكن العشوائية أيضاً تقود إلى مزيد من غياب المعيارية. فنسمي الرثاثة بساطة، ونسمي غياب اللباقة تلقائية. إن غابت المعايير الأساسية عن تجمعات البشر المليونية مالت وانحرفت إلى درجة الانهيار. ففقدت قدرتها على التمييز. وفقدت قدرتَها على التفكير السببي وإدراك العواقب. وانتشر سلوك التهليب وغياب المسؤولية عن الأفعال. وانحدرت الحجج إلى مستوى أقل من المعيار البشري الطبيعي. انظروا إلى حياتِنا السياسية، لن تجدوها أيضاً بعيدة عن هذا.