قيادة بلا فكر… ووطن بلا قرار

8

 

 

 

حين يُدار الوطن بعقليات الوكلاء… يغيب القرار ويُسرق المستقبل

 

منذ أكثر من عقدين والعراق يعاني من أزمة قيادة لا تُنتج فكراً وطنياً، بل تستنسخ الولاءات الخارجية والصراعات الداخلية. هذا البلد، الذي كان في يومٍ ما مركز إشعاع حضاري وفكري، بات اليوم يُدار بعقليات مؤقتة، تابعة، تتصارع على الغنائم وتنسى جوهر الدولة. والنتيجة: وطن بلا قرار، ومجتمع بلا أمل، ومستقبل يترنح بين المشاريع المستوردة والشعارات الجوفاء.

أولاً: سلطة المكوّن تطغى على سلطة الوطن منذ 2003، لم يظهر مشروع سياسي جامع يتعامل مع العراق كوطن، بل تم تكريس مفاهيم “المكوّن” و”التمثيل الطائفي” و”الاستحقاق القومي”. هكذا تحوّل العراق إلى مجموعة كيانات سياسية متنازعة، كلٌ منها يرفع راية طائفته أو قوميته أو تبعيته الخارجية، بينما تُهمَّش فكرة الدولة الواحدة. هذه الصيغة لم تُنتج استقراراً، بل عمّقت الانقسامات وشرعنت غياب العقل الوطني في قيادة القرار.

ثانيًا: النخب السياسية… وكلاء لا قادة ما يُثير القلق أن أغلب النخب التي تصدّرت المشهد لم تُقدِّم نفسها كمفكرين وطنيين، بل كوسطاء لمشاريع إقليمية أو دولية. لم تُصنع الرؤية السياسية داخل العراق، بل جرى استيرادها وفقًا لتوازنات الخارج، ثم تطبيقها محليًا بآليات محاصصاتية تُرضي الخارج ولا تُنقذ الداخل. النتيجة: إدارة بالأزمات، وتناوب على السلطة لا يختلف في المضمون، بل فقط في الوجوه.

ثالثًا: غياب البديل الحقيقي حتى الحركات التي رفعت شعار الإصلاح أو التغيير، لم تطرح بديلاً فكريًا متماسكًا. الخطاب ظل شعبيًا، انفعاليًا، بلا رؤية واضحة ولا مشروع متكامل للدولة. فهل يمكن إنقاذ العراق بشعارات دون فلسفة وطنية؟ ما ينقص المعارضة ليس فقط التنظيم، بل عمق الفكر، وقوة التصور، وشجاعة التحليل الجذري لبنية الفساد والتبعية.

رابعًا: الشعب في متاهة اللايقين حين تغيب القيادة الفكرية، يفقد الشعب الاتجاه. الشارع العراقي أثبت مرارًا رغبته بالتغيير، لكن دون بوصلة. الحركات الاحتجاجية تعرّضت للتخوين أو التوظيف، وغُيّب صوتها خلف خطاب شعبي لا يملك أدوات الفعل السياسي. لا قيادة وطنية تتبنى همومه بصدق، ولا مشروع جامع يفتح له أفق المستقبل.

خامسًا: الأمل… في النخبة الوطنية الغائبة رغم هذا المشهد القاتم، لا تزال هناك بذور حقيقية لفكر وطني ناضج، مبعثر في الجامعات، وفي وعي بعض الشخصيات المدنية، وفي الكتابات الجريئة على الهامش. ما يحتاجه العراق هو نخبة مستقلة، لا تخضع لمنطق الطائفة ولا وصاية السلاح، تنحت فكرًا وطنيًا من قلب المعاناة، وتبني مشروعًا للدولة من رحم الفوضى .

حين تغيب القيادة التي تفكر، ويتصدر المشهد من يُتقن المناورة لا البناء، لا عجب أن يصبح الوطن بلا قرار. العراق اليوم بحاجة إلى ثورة فكر، قبل أي تغيير سياسي. فكرٌ يعيد ترتيب الأولويات، ويضع الوطن في المقدمة، فوق المذهب والحزب، وفوق الحسابات الشخصية والمصالح العابرة. بدون هذا الفكر، سيبقى العراق يُدار بقرارات الآخرين، على أرضٍ منهكة، وشعبٍ تائه .

التعليقات معطلة.