كآبة الخرطوم “الإرث السام” لحرب الجنرالين

1

37 يوماً لم تعرف العاصمة السودانية فيها الهدوء وأصيب سكانها بالإحباط

إسماعيل محمد علي صحافي سوداني 

أدى طول أمد الحرب السودانية إلى تفاقم الجوانب الإنسانية ما سبب ضغوطاً نفسية لمعظم سكان الخرطوم الذين يقارب عددهم أربعة ملايين نسمة – (أ ف ب)

تجمدت شمس الخرطوم، وغطى دخان المعارك ابتسامة سحابها، ولم يتبق لسكانها منذ اندلاع المعارك، منتصف أبريل (نيسان) الماضي، سوى “الكآبة”، حتى بات السودانيون سجناء في منازلهم لا يغادرونها إلا في حال الضرورة القصوى؛ خوفاً من أي أذى قد يلحق بهم في ظل القصف الجوي والاشتباكات الجارية على الأرض بين الجيش بقيادة الفريق الأول عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع لقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي).

أدى طول أمد الحرب (37 يوماً) إلى تفاقم الجوانب الإنسانية، سواء الصحية أو الغذائية، ما سبب ضغوطاً نفسية لمعظم سكان العاصمة الذين يقارب عددهم أربعة ملايين نسمة، بعد نزوح أكثر من مليون إلى داخل البلاد وخارجها، إذ لم يعد بمقدور هؤلاء توفير احتياجاتهم اليومية من الغذاء، إما لعدم توافر المال اللازم أو لإغلاق ونهب كثير من المحال التجارية، ونقص بعض السلع الاستراتيجية.

ضغوط القتال

70 في المئة من سكان العاصمة السودانية يعتمدون على الأعمال اليومية التي توقفت بدورها تماماً بسبب الحرب، فضلاً عن فئة العمال والموظفين التابعين للدولة والذين لم يتقاضوا حتى الآن راتب شهر أبريل. وما بين هذا وذاك يواجه المرضى موتاً بطيئاً نتيجة توقف معظم المستشفيات وانعدام الأدوية في ظل إغلاق صيدليات كثيرة بمدن العاصمة الثلاث.

إحسان عبدالسيد أم سودانية لأربعة أبناء قالت “أنا وزوجي موظفان في الدولة، وبالكاد يغطي راتبنا مصروفات معيشتنا، وليس لنا دخل آخر غير الوظيفة، وعندما اندلعت الحرب كان كل تفكيرنا كيف نستطيع أن نسير حياتنا إذا لم نصرف راتب شهر أبريل، وللأسف كل يوم يمر علينا نصبح أكثر إحباطاً لسوء أحوالنا المعيشية، فكل ما نملكه قمنا بصرفه، ولا يوجد أحد في ظل هذه الظروف يمكننا الاستدانة منه، فالكل يعاني من شح السيولة، خصوصاً أن البنوك لم تفتح أبوابها وتطبيقاتها الإلكترونية غير مستقرة، إذ تتوقف من حين إلى آخر”.

وواصلت “لا يمكن لأي إنسان أن يتحمل هذا الوضع المؤلم لأكثر من شهر، فلا نوم ولا أكل ولا راحة بال، حيث نصبح ونمسي تحت هذه الضغوط والمعاناة المتواصلة، وأغلب الأيام نتناول وجبة واحدة، وأحياناً كثيرة نهرع تاركين الأكل حينما نسمع دوي انفجار لدرجة إحداثه هزة في منازلنا المتهالكة أساساً، لقد سئمنا الحرب ولا ندري متى تتوقف وكيف ستكون حالنا إذا لم يحدث اتفاق بين الطرفين لوقف دائم لإطلاق النار، فبالنا مشغول ولا ندري ماذا نفعل، وأحياناً كثيرة أسأل نفسي ما ذنبنا نحن المدنيين الذين دفعنا ثمن هذه الحرب؟”

33FK2FH-preview.jpg

أسر سودانية حاولت الفرار من صوت الرصاص في العاصمة لكن لم يكتب لها النجاح (أ ف ب)

وزادت الأم إحسان “حاولنا الخروج من الخرطوم حتى لا نصل إلى هذه الدرجة من المعاناة ونبعد عن ضغوط القتال وصوت الرصاص المزعج نفسياً، لكن لم يكن لدينا المبلغ الكافي، خصوصاً أن أسعار السفر تضاعفت 400 في المئة، واستسلمنا بأن نبقى في منزلنا، حيث نطمئن بعضنا البعض على رغم المخاطر التي تحيق بنا من كل جانب”.

بكاء الأطفال

عبدالقادر الحاج (63 سنة) أحد سكان الخرطوم روى مأساته منذ بدء المعارك فقال “أسوأ ما في هذه الحرب أنها جاءت في وقت يعاني المواطن السوداني ضنك العيش، فكثيرين غير قادرين على توفير الحد الأدنى من احتياجات أسرهم، والآن داخل كل بيت تجد مأساة يندى لها الجبين، فأنا أسكن في حي شعبي معظم سكانه على قدر حالهم، فأول هذه المآسي انقطاع الكهرباء والمياه لفترات تصل إلى أسبوع كامل ثم تعود يوماً أو يومين ليتواصل بعد ذلك مسلسل الانقطاع”.

ومضى في حديثه “أما في الجانب المعيشي فحدث ولا حرج فمعظم الجيران يحدثوني عن أنهم لمدة يوم كامل لا يتناولون وجبة واحدة، وتسمع أحياناً صوت بكاء الأطفال من شدة الجوع ومرات الذعر والخوف من دوي الرصاص وقذائف الطيران الحربي”.

33FG36Y-preview.jpg

صوت بكاء الأطفال من شدة الجوع ومرات الذعر والخوف من دوي الرصاص وقذائف الطيران الحربي لا يتوقف في الخرطوم (أ ف ب)

وتابع “أنا شخصياً لست أحسن حالاً من هؤلاء، فلدي سيارة أجرة (تاكسي) وما أدخله يومياً قبل الحرب أصرفه على أسرتي المكونة من الزوجة وولد وثلاث بنات، وأقوم بتوفير أقل من 10 في المئة من دخلي لإصلاح أي عطل قد يحدث في المركبة، لكن حالياً لم يتبق لي فلس واحد من المبلغ الذي أدخره، والمشكلة أنني مصاب بمرض السكر ولا أتحمل الجوع أو أي نوع من الضغوط، والحرب مستمرة ولا أحد يهمه معاناتنا، فإن لم تتدخل المنظمات الإنسانية سريعاً فالمأساة ستكون فادحة”.

وبين الحاج “لقد أرهقتنا الحرب نفسياً، فلم نستطع نتحمل أكثر من ذلك، فالمشكلة أن الخوف أصبح يسيطر على زوجتي وأبنائي، فلم يعودوا كما كانوا قبل الحرب، وأحياناً يرفضون الأكل على رغم قلته، ولا أدري ماذا أفعل وأنا في الوقت نفسه احتاج للرعاية الصحية”.

روتين الحياة

الاختصاصي النفسي السوداني أحمد محمد نجيب، علق على الضغوط التي يواجهها سكان الخرطوم جراء الحرب بقوله “في الحقيقة واقع سماع كلمة حرب صعب على النفس فماذا عن معايشتها يومياً، فالإنسان بطبيعته يعتاد على الروتين ونمط الحياة ويكابد لكي يصل إلى أفضل مراتب المعيشة، بخاصة أن بلادنا شهدت في الفترة الأخيرة وقبل دق أجراس ونواقيس الحرب تدهوراً مريعاً في كل نواحي الحياة، وكان المواطن السوداني على حافة الانهيار النفسي نظراً لاختلال هذا النمط والروتين”.

وأضاف “استيقاظ المواطن بين يوم وليلة وعلى مسمعه ومرآه أصوات الطائرات والأسلحة النارية المتطايرة في كل مكان من شأنه الوصول بالحالة النفسية إلى حالات قد تصنف مرضية من نوبات فزع وهلع أو تمتد إلى اضطراب ما بعد الصدمة الذي قد يستمر لسنوات عدة ما لم يتم التعامل معه وعلاجه بطريقة سليمة”.

نجيب مضى في حديثه بقوله “معظم السودانيين وأعني سكان الخرطوم معرضون للإصابة بحالات الإحباط والاكتئاب النفسي نتيجة النزوح والإجبار على خروجهم من منازلهم وتنقلهم مترجلين نحو مستقبل مجهول، فهذه الفكرة إذا طرأت على خاطر أي مواطن قبل الحرب قد تؤدي إلى اكتئاب والآن أصبحوا يعيشونه”.

33FF8J4-preview.jpg

معظم السودانيين خصوصا سكان الخرطوم معرضون للإصابة بحالات الإحباط والاكتئاب النفسي نتيجة النزوح (أ ف ب)

وتابع “الاكتئاب حالة مرضية نتيجة نقص هرمون السيروتونين في النواقل العصبية بالدماغ وله أسباب جينية وبيئية وأعراضه تتمثل في الحزن والبكاء غير المبرر وفقدان الشهية وتأنيب الضمير، وقد يصل في بعض الحالات إلى تمني الموت والنزعات الانتحارية، فالحرب وما يعيشه المواطن السوداني في الوقت الحالي من ضغوط أحد أهم مسببات الاكتئاب البيئية للصغار والكبار معاً”.

وحض الاختصاصي النفسي على أهمية تماسك المجتمع السوداني في هذه الفترة العصيبة، كما دعا كل المختصين التطوع قدر الإمكان من خلال نشر الوعي وتقديم المساعدة في هذا الجانب للمواطنين الذين يعانون من الضغوط والأزمات النفسية، حفاظاً على النسيج الاجتماعي من الانهيار في المستقبل القريب في ظل تسارع الأحداث وتغير الوضع المعيشي لكل الأسر من دون استثناء، فالكل متضرر من هذه الحرب.

التعليقات معطلة.