عادل سعد
تظل متلازمة كائنات الدهاليز واحدة من أكثر الأوبئة الاجتماعية حضورا في الحياة العراقية، وربما في بلدان أخرى من العالم مع خصوصية كل متلازمة من هذا النوع ضمن الطابع العام لهذا البلد أو ذاك تحت ضغط إشكالية التخويف والشكوك بالآخرين، وبالتالي كفاف (شر) الآتي بانغلاق محكم. وفي الوقت نفسه تكرار محاولات النيل من المعارضين لهم هؤلاء (الرواد)، من طبيعتهم رسم حدود آمنة لصالحهم تضمن (غريزيا) البقاء خارج حدود النظر، وإن خرجوا في أوقات معينة فلأجل الاستطلاع المباغت والسريع بما فيه من تشويه وخلط، ثم العودة العاجلة إلى مياسمهم الخبيئة، لذلك من الصعب إحصاء أعدادهم.
الحال هناك سياسيون وكتل تدور فحسب في ما تعتقده الممرات الآمنة التي صنعتها، أو استعارتها وعندها تصاب بالتحجر قطعا مهما حاولت الزعم أنها مع فرص الاقتراب من الآخرين والإصغاء لهم، وهذه إحدى المعضلات البنيوية الجامحة التي ابتليت بها أغلب المجتمعات العربية.
في العراق ولبنان وليبيا، وفي صفوف المعارضة السورية، وفي تونس بنسخ أقل حدة، وربما في بلدان أخرى، هناك من يستطيب متلازمة الإنفاق عن جهل، وهذا من الممكن معالجته بتغيير منظومات على سياق (إذا لم تستطع تغيير الأشياء، اعمل على تغيير الأسماء) وبذلك يتحقق الاندماج مع تكثيف التدريب على ذلك، وتقديم عينات في إطار الاقتداء بالنماذج المتيسرة.
إن المشكلة المعقدة تكمن لدى أصحاب النية المتعمدة مسبقا الذين ارتضوا هذه المناهج وتطبعوا عليها وصاروا (خبراء) في الدخول على الأحداث، ومحاولة تغيير مساراتها في مهمات لا يستغرقهم سوى تعظيم نزعاتهم الاستحواذية من دون الاكتراث لما تسبب من خسائر للآخرين، بل وفواجع، وقد تشتد هجماتهم إذا وجدوا أنهم في حالات انكماش.
هم يحاولون تكوين إرث بنيوي لشبكة مصالح بمجسات تترافق مع مساعٍ تجميلية بين الحين والآخر، وهكذا يحصل الاختلاط وتتشوه الرؤية ويسود التمويه الذي هو إحدى علامات عتمة المسرح المفضل لهم، كل ذلك لإطالة أمد إفساد، وفرض شبكة انتظارات وتشغيل عمليات تقسيم على مقاسات تضمن استمرار هذه اللعبة على وفق ما يقتضي التسويق وشراء ذمم إعلامية بمنصات ورقية وفضائية وإذاعية وإلكترونية، وإلا كيف نفسر هذا السيل من الضخ الإعلامي المبرمج الذي تشرف عليه؟
أصحاب هذه المتلازمة يصنعون فرصا لتقطيع الحقائق وبيعها (بالمفرد) والمناورة على أصدائها، وهكذا تتشوه الرؤية وتعم الاختلاطات، وبالتالي تتشعب إمكانات هياكل الدولة العميقة غير المرئية.
لقد فعلها ميرابو بشهادة موثقة للنفاق والغيلة والازدواجية، بنسخة أكثر مواربة خلال الثورة الفرنسية أواسط القرن الثامن عشر، ففي الوقت الذي كان يطرح نفسه ثائرا محنكا، كانت له جسور مع الملكيين ولقد انطلى زيفه على بعض كاتبي السّير، فبدل أن يلعنه التاريخ لازدواجيته ونفاقه، اُسبغ عليه لقب خطيب الثورة الفرنسية بغير وجه حق، وهكذا أيضا في مشاهد لافتة، دخلت على خط احتجاجات اللبنانيين والعراقيين هذه الأيام وجوه من متلازمة الدهاليز بأسلحة وبغير أسلحة، يصرون على قطع الطرق لإيقاف حقوق ومصالح الناس اليومية المشروعة واتهام العهد بذلك.
هناك نسخ من أصحاب تلك المتلازمة، ولكن أغلبها مبطن من النادر اكتشافه لكثرة ما يضع على ملامحه من مساحيق تجميل بالمزيد من الرخص في تأثيث سياسي وإعلامي مغشوش، وبعروض مبرمجة يومية لدموع التماسيح.
إن مواجهة هذا الزخم من كائنات الدهاليز تتطلب بالضرورة التوقف والتبصر والتحذير، أقصد أن تكون لدينا حصانات في فضح بريق النحاس المصقول الذي يخرج بين الحين والآخر من تحت الساحات زاعما أنه الذهب الثمين، يتماهى مع مطالب مشروعة لمواطنين مفجوعين بسبب الحاجة للحياة الكريمة، مع يقيني أن فرصة الفرز تتوافر إذا استخدم الإعلام ضميره الحي بدون أي تستر أو محاباة أو تضليل، وابتعد عن التشاطر والاغتياب، والترفع عن المناكدة والنميمة والتشهير، والتنطع، وعندها تتضاءل قدرات كائنات الدهاليز ويصبح من الصعب عليهم اختطاف الأوضاع إلى الفوضى، البيئة المناسبة لهم.
للتوضيح فحسب، اللصوص الأثرياء يتجولون أحيانا بأسمال، وبأحذية مثقوبة وبالية، للإيحاء بأنهم فقراء، وكما تنصب شركات صناعة التجميل كمائن لاستدراج النساء والرجال بهدف الإقبال على مساحيق الطلاء، وترويج بدع الملامح الشبابية الدائمة؛ أي الوقوع في هوس النضارة التي لا تنقرض، كذلك ينشط منتمو الدهاليز في تسويق أنفسهم.. إنهم يملكون حلولا سحرية تضع حدا مباشرا لكل المشاكل القائمة نكاية بالإصلاحيين الحقيقيين، وكأنهم يقولون امنعوا عليهم أن يتنفسوا فرصتهم بالإصلاح.
إنه الاندساس المتوحش لقطع الطرق وحرق المؤسسات وقتل الأبرياء، والإلحاح على إيلاد العاقرات!!