محمد حسين أبو العلا
لم تحفل دولة على وجه الكوكب الأرضي بكم من التناقضات الصارخة والغرائبيات المذهلة التي أصبحت سمة قومية عامة بقدر ما حفلت به الولايات المتحدة الأميركية. وقد تختلف حدة هذه التناقضات باختلاف الأنظمة المتعاقبة عليها لكنها قد ظلت آلية ثابتة في منظورات الفكر السياسي الأميركي واشتدت وطأتها تحت مظلة تلك الكارثيات الترامبية المتلاحقة والتي تتنكر لها عقول الساسة والمفكرين والإستراتيجيين على السواء.
ومنذ أمد طويل ومعامل ومختبرات الفكر تسجل كل السقطات والتوجهات الشاذة في إطار طبيعة الظرف السياسي السائد كاشفة عن أسبابها ونتائجها ومدى اتساقها أو تضادها مع مصالح الأمن القومي الأميركي، وطبقاً لذلك جاء تقرير «غالوب» ليطرح أبعاد ظاهرة خطيرة اجتاحت المجتمع الأميركي وأظهرت أن شرائح كثيرة من الشباب استبدت بها فكرة الهجرة الدائمة فراراً من تلك السياسات الطائشة التي جرت أميركا نحو منحدر تاريخي
مشهود.
ولعل الأخطر في تلافيف تلك الظاهرة هو ارتفاع معدلاتها بين الشباب والفتيات، من ثم فهي ظاهرة تستدعى الوقفة والتأمل والتحليل والتفسير إذ كيف للشباب الأميركى أن يرتضي طوعاً مغادرة فردوس السيادة والحضارة؟ وما هي البواعث المحورية لبروز تلك الظاهرة؟ وهل تستوقف تلك الظاهرة حركة الدولة العميقة؟ وهل يمكن أن يتبنى النظام الأميركي سياسات مضادة للأمن الاجتماعي؟ وكيف صارت أميركا دولة طاردة لطاقات التغيير فيها؟ وما هي درجة الاستجابة لمطالب تلك الفئات الشبابية حتى تحيد عن فكرة الهجرة؟ وفي المقابل هل ستدعم أميركا تيارات الهجرة المتدفقة من شباب العالم؟ وهل تمثل تجليات هذه الظاهرة دافعية لانضمام الشرائح الشبابية الأخرى… بمعنى هل تحدث أو تنتقل العدوى الشعورية أو الفكرية لديهم؟ إلى غير ذلك من بقية التساؤلات الساخرة والمحبطة، لكن الترامبية لا تكترث بهذا أو بشىء من هذا بل إنها تجدد موروثات الطيش بالإصرار المقيت على إعلان حالة طوارئ بالبلاد كوسيلة ضغط إستراتيجي لتمويل الجدار العازل على حدود المكسيك وهو المشروع الذي يحظى بمعارضة حادة من قبل الكونغرس، ذلك بجانب استمرار حالة الإغلاق الحكومي التي وصفت بأنها الأطول في تاريخ الولايات المتحدة والتي تمثلت أبسط آثارها في قطع رواتب آلاف الموظفين، وانتشار صور الشيكات الصفرية ومأساوية ملامح الحياة اليومية المتجسدة في العجز عن سد الاحتياجات الأساسية للبشر وهو ما استدعى تحريك الدعاوى الجنائية ضد ترامب وإدارته نظراً لانتهاك الدستور وقوانين ولوائح العمل، وامتدت أشباح تلك الأزمة إلى الكتيبة الديبلوماسية التي تقدمت بطلبات للحصول على إعانات إجتماعية ومن ذلك كانت بداية البحث الدؤوب عن كوبونات الغذاء المجانية المدرسية لأطفالهم.
واسترسالاً في سرد الكارثيات التي أضجرت الشباب كانت كبيرة الكبائر حول شبهات التواطؤ السياسى بين موسكو وفريق الحملة الإنتخابية الرئاسية لترامب وما إذا كان يعمل لحساب موسكو عمداً أو غفلة، وتلك أهم القضايا التي تحتقن داخل عقل الشباب الأميركي؛ لأنها ترتبط بمستقبل القارة الأميركية ذات الحول والطول والتحقق من معرفة مدى القدرة على اختراقها عن طريق تصعيد رئيس يخدم في الحقيقة مصالح الأعداء بينما يظن أن قضيته الأولى هي إعلاء الشأن الأميركي وهذا هو اليقين السياسي لدى جماعات الشباب المنشق على طبيعة السياسات الأميركية شكلاً ومضموناً، لعل ذلك كان سبباً مباشراً في بروز المصطلح الجديد (ترامبيزم) الذي دخل قاموس السياسة والثقافة الأميركية أخيراً، مشيراً إلى أن محتوى المصطلح ثقافة وأيديولوجية وممارسة لا يعني فكراً شخصياً ينتمى إلى فرد واحد بل أنه يعني في الأساس ذلك الإمتداد الفكري التآمري للمحافظين الجدد أو اليمين المتطرف بدرجاته
المختلفة.
إن الإمبراطورية الأميركية تداعت وضعيتها السياسية والاستراتيجية واختلت منظومتها الداخلية وأصبحت كياناً بالياً تجاوزه الزمن الاستراتيجي للحظة المعاصرة، ذلك أن ربان السفينة لم يقدها نحو منعطفات خطرة أو مزالق مستحيلة وإنما استخدم وبفاعلية كبرى آلية الغرق وسيلة للنجاة، لأنه بالطبع يجهل أن معرفة فن التأثير في مخيلة الجماهير يعني أول ما يعني معرفة فن حكمها.
* كاتب مصري