عقيدة الفساد والإفساد
التفاصيل التى تضمنتها عملية ضبط جهاز الرقابة الإدارية لمحافظ المنوفية متلبسا بقضية رشوة 2 مليون جنيه لتخصيص أراض بقيمة 20 مليون جنيه دون وجه حق، تؤكد أن جميع مسؤولى وموظفى الدولة تحت الملاحظة الدقيقة، وأن زمن الهبش والنهش وتحويل الموارد العامة إلى جيوب حفنة من المنتفعين الفاسدين فى طريقه إلى الزوال، لكنها من ناحية أخرى تفاصيل مرعبة ومحزنة وكاشفة لطبيعة مجتمعنا الذى تعرض لعقود من الإفساد المنظم حتى أصبح الفساد عقيدة ومنهجا فى ذاته.
الموظف يفسد وقد لا يكون محتاجا إلى الرشوة أو نهب المال العام، ولكنه يفسد بقوة الدفع ولألف سبب وسبب، منها أنه يخشى من مجتمع الفاسدين، ويخشى ألا يستمر فى عمله وترقياته، ويخشى أن يكون على صواب وصاحب أخلاق فى زمن المسوخ، ويخشى أن يمر على المنصب والوظيفة المرموقة وحنفية الأموال العامة السايبة دون أن يأخذ ما يعتقد أنه نصيبه فيعيره من سبقوه ويضحك عليه اللاحقون عليه!
أعرف رجل أعمال فى سنوات سابقة حصل على مساحات هائلة من الأراضى بتراب الفلوس أو بدون ثمن تقريبا بإحدى المدن الجديدة التابعة لمحافظة الجيزة، وكان الهدف من التخصيص إقامة مستشفيات ومدارس ومدينة لإسكان الشباب، بالإضافة إلى تحديد نسبة 20 فى المائة من الأرض لإقامة كمبوند فيلات وشقق فاخرة، ولم يكن صاحبنا رجل الأعمال هذا مشغولا بالاستثمار العقارى أصلا، وعندما سأله أحد الأصدقاء المشتركين، ولماذا يا فلان بك حصلت على هذه الأرض التى تنوى عدم استثمارها على الأقل خلال السنوات الخمس المقبلة؟ رد عليه قائلا: إنت عايزهم يقولوا إنى صغير ومليش حصة فى الحاجات اللى بتتوزع، أو ما يعملوش حسابى بعد كده؟ ده نصيبى وهاخده وبعدين أشوف هعمل فيه إيه، وبالفعل مرت سنوات خمس أو ست ثم بدأ رجل الأعمال بتقسيم الأرض المهولة فباع جزءا منها لشركات تطوير عقارى بالمليارات لتقيم عليها كمبوندات فاخرة، ثم أسس لنفسه شركة عقارية أقام من خلالها مشروع فيلات فخما وضاع التخصيص الأساسى لإقامة مساكن للشباب ومحدودى الدخل ومستشفيات ومدارس.
هذا هو المنهج الذى ظل متبعا طوال الأربعين عاما الماضية، حتى تغلغل الفساد من الرأس إلى كافة أطراف البدن وأصبح لدينا غول الفساد الصغير الذى يصدمك أول ما تدخل أى مصلحة أو جهة حكومية، من العامل على الباب وحتى الموظف الكبير، ويا ويل من يتعامل مع البك الموظف ولا يفتح مخه، سيرى العجب والسواد فى عز النهار ويكره اليوم الذى قرر فيه أن ينهى مصلحته بالقانون.
وفى مواجهة غول الفساد الصغير والكبير، بدأت الأجهزة الرقابية وفى مقدمتها الرقابة الإدارية بمواجهة شاملة لاستعادة هيبة الدولة وللإعلان عن عصر جديد يواجه فيه الفساد بقوة أيا كان المتورط فيه، مسؤولا كبيرا أو موظفا صغيرا، ورأينا وزراء ومحافظين ورؤساء مصالح ووكلاء وزارات يسقطون تباعا فى قبضة الرقابة الإدارية، لأنهم اختاروا طريق الرشوة وأضاعوا حقوق الدولة أو اختاروا الإهمال فى أداء أعمالهم فأضاعوا أيضا على الدولة حقوقها، ورأينا أيضا حملات مواجهة التعديات على أراض وممتلكات عامة بمئات المليارات من الجنيهات، وهو الوجه الآخر لاستباحة كل ما هو عام، المبدأ الذى راج فى السنوات الأخيرة.
لكننا أمام سؤال جوهرى لابد من الوصول إلى توافق مجتمعى حوله، هل يمكن أن تتصدى الرقابة الإدارية أو كل الأجهزة الرقابية مجتمعة لغيلان الفساد الكبير والصغير دون مساندة مجتمعية ودون وعى مجتمعى جديد؟ الرقابة الإدارية تمسك كل يوم بعشرات اللصوص ينهبون أموال الدولة ويفسدون العمل العام بممارستهم التى تستبيح حقوق الشعب، ولكن حجم الفساد هائل ولا يمكن مواجهته بالأجهزة الرقابية وحدها، لابد وأن يتغير شىء فينا جميعا، لابد وأن نعود إلى الحلال والحرام والضوابط الأخلاقية وإلى القانون لنحتمى به فى مواجهة كل أشكال الإفساد.