محمد الحديدي
من منا يبلغ بمستوى حماقته ما يكفي ليظن أنه يفهم أمور الدنيا على أكمل وجه؟ من منا يُصّور له خياله أنه قد أحاط بجميع جوانب أمر واحد من أمور الدنيا؟ تلك الدنيا التي تمتلئ بمفترق طرق لا تعد ولا تحصى، منها ما قد ينتهي بك إلى نفس الأماكن، ومنها ما قد يعبر بك الحدود إلى أماكن أخرى، وفي كلتا الحالتين، فإن كل مسار يختلف كل الاختلاف عن غيره من المسارات، وإن أوصلوا في النهاية إلى نفس المكان.
فالتحديات ليست واحدة، فالخبرة التي تجنيها من عبور الطريق تختلف تماما عن قيادة السيارة، فالتحديات ليست واحدة والمواجهات والصعوبات ليست متساوية، ولذلك فإن من المؤكد أن الحقائق التي تتكشف أمامك تكون مختلفة ومتباينة، ويظل ما خفي عنك من الحقائق أعظم، فهل سلكت جميع الطرق؟ وهل جمعت جميع الحقائق؟
فكلما ظننت أنك قد ملكت الدنيا بين يديك، أو أن أمرًا من أمور الدنيا قد خضع إليك ولو لوهلة صغيرة، فإذ بالدنيا تبعث لك من يذكرك بعبثك وحماقتك، ويصفع وجدانك صفعة لا تفيق منها، إلا وأنت مُوقن أنك جاهل أبله، وأن جهلك هذا جهل مركب، فأنت لست أكثر الناس ذكاء، ولست أكثرهم دهاء، بل إن ظنك في نفسك الذكاء والدهاء هو عين الحماقة والغباء، فأمور الدنيا لا تخضع لقوانين الفيزياء وسرعة تغيرها، وتطور أحداثها، لا تقاس بقوانين نيوتن، إنما هي مواقف إنسانية تتجمع وتتكامل أمامك حتى تشكل رؤية بدائية وبسيطة لما أنت مقبل عليه، بريق بسيط يعينك على المضي قدما في رحلتك في هذه الدنيا.
قد تكشف لك الدنيا عن شيء من خباياها وحقائقها، وقد لا تفعل، ولكنها في النهاية تحتفظ لنفسها بكم ليس بالقليل من الحقائق لن يستطيع إنسان الإحاطة بجميعها. وكلما حاولت الغوص في بحر الدنيا والابتعاد عن سطحها، إذ بنور الشمس يقل، وإذ بالظلمات تزيد حتى تحيط بك من كل جانب، فما أقبح هذه الدنيا حين تعيش مع تفاصيلها ودقيق أمورها، فعمق البحر ليس كسطحه وظلام عمقه ليس كنور السطح. قد تلهيك ألوان وأشكال شعبه المُبهرة، وحركات أسماكه المتناغمة، ولكن في الأعماق، يختفي الضوء شيئًا فشيئا، وتصير الألوان ثابتة والأشكال مخيفة والحركات مضطربة مقلقة، ومثل ذلك حال الدنيا، فعاقل من عاش على سطحها لا متمسكا بها، ولا مفرطا هائما، لا ترى أثرا للدم على وجهه، فالعيش مطلوب، ولكن على السطح.
لا أدري لماذا يعتبر الناس السطحية إهانة ومقابلها العُمق؟ مع أن أجمل الأشياء سطحها، فما أجمل تلك الوردة الجميلة المتفتحة ذات الرائحة العطرة، بل ما أجمل ذلك البستان المليء بالورود الجميلة، ماذا عن تجمع تلك البساتين الخلابة، إذا نظرت إليها من الطائرة، وما أجمل كوكبنا من الفضاء بزرقته المريح للأعصاب، وما أقبح منظر الشوك على الوردة، وهو يحيط بها، والأقبح هذه الشوكة التي تفصلك عن لمس الوردة، ويا للحزن والصدمة التي تصيبك عند علمك بموت الوردة التي كنت تداوم على رعايتها! هكذا هي التفاصيل، مؤلمة موجعة، على عكس الأطراف، فإن التفاصيل تتوه ولا تجد فيها طريقا إليك، كيف لا وأنت في الغالب لا تدري بوجود هذه التفاصيل من الأساس، ولهذا قيل في هذا الشأن أن العلم مرهق ولا مفر من الإرهاق عند العلم. فالعلم بالتفاصيل متعب للبدن ومرهق للوجدان؛ لأن التفاصيل لا تنتهي، ولا تفنى، بل تزداد ظلاما وقبحا.
يقول المتنبي:
ذُو العَقلِ يَشقي في النْعيمِ بِعَقْلِهِ … وأخو الجَهَالة في الشَّقاوَةِ يَنْعَمُ
فكم هو مرهق لذهن المرء علمه بهذه التفاصيل الدقيقة، وإن غاص في النعيم غوصًا! فربما يوصل العلم إلى النعيم أو أحد أشكاله، ولكن بعد أن تدهور حالك وأتعب وجدانك، ولعل من هو جاهل بتلك التفاصيل غير ملقٍ لها بال، أحسن حالا، وأريح بالا، وإن لم يرق إلى نفس مرتبة النعيم، فكم من مُتعَبٍ مُشتَغَلٍ بالتفاصيل نسي معنى الراحة والهدوء النفسي! فيا صديقي، عش هاربًا من التفاصيل المنهكة للبدن والوجدان، ولا تأبه لها؛ تعش صافي النفس مرتاح البال.