د. وائل عواد
من خلال متابعتي للأحداث في الشرق الأوسط ، كنت على علم مسبق بالاستعدادات الأمريكية- البريطانية لغزو العراق وكلفت بمهمة الذهاب للكويت للتحضير وتدريب كوادر في مكتب قناة الام بي سي مع انطلاق قناة العربية قبل الغزو الأمريكي للعراق بأيام . كان اول لقاء لي على الهواء من الكويت مع انطلاقة قناة العربية وبدأنا بنقل الوقائع والاستعدادات واتذكر السبق الصحفي الاول كان بكشف النقاب عن صفقة وقعتها شركة هاليبرتون الأمريكية مع بعض المسؤولين بقيمة ملياري دولار امريكي ، تتعلق بالعراق للدعم اللوجستي للقوات الأمريكية وإيصال المؤن للعراق خلال ثلاثة أسابيع أي قبل العاشر من نيسان 2003 إلى العاصمة بغداد .استدعيت من قبل جهة أمنية لمعرفة مصدر الخبر.
رفضت اعطاء المصدر وطلبت من المسؤول ان ينفي الخبر على شاشتنا اذا كان يعتقد ذلك غير صحيح لكنه امتنع. وعدت ادراجي للمكتب استعدادا” للتغطية حيث بدأ الصحفيون والعسكريون بالتوارد إلى مدينة الكويت التي تحولت لقاعدة للبنتاغون وبدأ المسؤول من وزارة الدفاع الامريكية بإصدار الهويات الخاصة والتصريحات باذن الدخول ومرافقة القوات الامريكية-البريطانية إلى العراق .
خمسة عشر عاما” ومازال شبح الحرب يعيش في مخيلتي اعيش أحداثه واصحو في منتصف الليل من الكوابيس. أكملنا الاستعدادات للدخول فريقنا إلى العراق عبر الكويت مع القوات الأمريكية . وشارك الفريق في المعسكر لمدة اسبوع مع القوات المارينز بالقرب من الحدود الكويتية -العراقية حيث بدأت القوات الأمريكي بإزالة الحواجز ومد الجسور المتحركة للزحف ومعنا المخطط الأمريكي لغزو العراق الذي وضع بدقة مدعوما” بالتفوق التكنولوجي واستخدام الاسلحة الذكية .تم توزيع الادوار على الجيشين الامريكي والبريطاني حيث يتوجه الاول إلى بغداد عبر الناصرية بينما تتقدم القوات البريطانية إلى البصرة جنوبي العراق عبر أم القصر وجزر الفاو .
لم يكن امامي خيار آخر لمرافقة القوات الامريكية ، بعد ان دبّ الرعب في نفس زميلتي ناديا التي انسحبت ورفضت الدخول إلى العراق مع القوات الامريكية وتغطية الحرب بحجة أن الرئيس الراحل صدام حسين سوف يستخدم السلاح الكيمياوي وهي أرملة ولديها طفلتان يتيمتان تبكيان على فراقها وبحاجة لها ! كان الفريق الوحيد الذي سيسمح له بالدخول مع المارينز من الكويت بعد أن وزعت جميع الطواقم لتغطية الحدث من دول الجوار للعراق .
دخلنا مجموعة من ثلاثة أشخاص ،ضمت المصور طلال والمهندس علي . اصطحبنا معنا اجهزة البث المباشر بسيارة من طراز رانج روفر أتينا بها جديد من السعودية وسمحت لنا القوات الأمريكية بادخالها بعد طليها باللون الرمادي ورفع علم التحالف وتعطيل المزمار والاضاءة وتحصّنا بدروع مضادة للرصاص ولباس للحماية من الغازات الكيماوية وبدأنا بالدخول مع القوات الامريكية في عتم الظلام ونحن نلبس المنظار الليلي مع الرتل من القوات العسكرية الأمريكية المارينز الامامية مدججة بالعتاد والأسلحة الفتاكة وطائرات الاباتشي الحربية الحديثة تلوح فوق رؤوسنا .
كنا محرومون من إعطاء معلومات عن اماكن تواجدنا او اظهار جرحى من الجنود الأمريكيين وغيرها من الشروط التي اجبرنا على التوقيع عليها للسماح لنا بمرافقة الجنود المارينز في ظاهرة إعلامية جديدة كصحفيين مصطحبين ( (embedded journalist لاعلاقة لها بحرية الاعلام ونقل الحقائق كما تحدث . عادة هذا النوع من الصحفيين يرافقون قوات بلادهم الغازية وينقلون انتصارات جيوشهم وكانت واشنطن حريصة على عدم اظهار القتلى وسط جنودها وحلفائها لما يتركه من اثر سلبي على الراي العام الأمريكي الرافض لهذه الخطوة الاحادية من قبل الرئيس جورج بوش الابن والمحافظين الجدد بتحريض من شركات النفط الأمريكية الكبرى وعلى رأسها شركة هاليبرتون العملاقة .الحديث مكرر من قبل جميع القادة العسكريين الأمريكيين الذين التقينا معهم وهي صدام حسين مجرم ديكتاتور يقتل شعبه ويملك اسلحة دمار شامل والجيش الأمريكي جاء ليحرر الشعب العراقي من السفاح وينشر الديمقراطية والحريات إلى ما هنالك من الأكاذيب والتهم لتبرير غزو العراق والتي اعترف القادة الأمريكيين ذاتهم والبريطانيين لاحقا” بتضليل الرأي العام العالمي وشعوبهم وكانت جميع الادعاءات لشن الحرب باطلة وان الهدف الرئيسي كان ومازال احتلال العراق و السيطرة على خيراته وتقسيم وتفتيت هذا البلد .
كانت القوات الامريكية متاكدة من سقوط بغداد قبل العاشر من نيسان والخطط العسكرية وضعت بدقة بعد تجريد العراق من أسلحته الاستراتيجية والتأكد وتقدير قدرات قواته على الصمود بما تبقى من الاسلحة التقليدية والذخيرة . طبعا” التغطية كانت على الهواء مباشرة وانفردت بنقل الوقائع بحرية نوعا” لأن الحديث باللغة العربية الذي ابعد الشبهات عني وصعوبة حصوله على الترجمة بسرعة لما اقوله على الهواء .كان ذلك خلال الثماني وأربعين ساعة من بداية الغزو وكانت القوات الامريكية قد تقدمت بشكل ملحوظ داخل العمق العراقي حيث كانت في طريقها إلى بغداد بينما القوات البريطانية تقوم بمحاصرة المدن العراقية على الطريق . لم يرق لزملائي في الاستديو في مدينة دبي بما اقوله عن المدة المرتقبة للحرب الامريكية حتى اسقاط بغداد لأني كنت املك مخطط سير القوات الامريكية وهم يقولون لي: كيف يمكن لهم التقدم والانتصار ومازال الصمود ظاهرا” وشرسا” في ام القصر ضد القوات البريطانية ؟ وأن الشارع العربي متعاطف مع العراق وعلّي مراعاة ذلك لكني رفضت إلا نقل ما يحدث ولهذا أنا في الميدان .
صحيت بعدها لأجد فريقنا قد تغير مكان تواجده و مرافقته للقوات الأمامية وعندما سألت القائد الجديد للفرقة قال لي انه تم نقلكم إلى فرقة الصيانة والمعالجة لأنك من” قناة عربية” ونريد أن تظهر الدور الإنساني للقوات الامريكية في معالجة الجرحى العراقيين وتقديم خدمات انسانية .هنا جن جنوني وصرخت بوجهه قائلا: ” أنا صحفي محترف ولا أمثل شبكة دعاية ، لدي معّدات الكترونية بمئات الآلاف من الدولارات واخاطر بحياتي لنقل الحقائق للمشاهد العربي وليس لتلميع صورتك. أرجعني إلى مكاني الأول وإلا سأعلن ذلك على الهواء مباشرة وسوف اضطر إلى مغادرتكم والذهاب دون مرافقتكم وأنتم المسؤولون عن حياتنا”. كان لكلامي هذا وقع شديد على قائد الفرقة الذي بدأ يتصل على الهاتف بعصبية ويتحدث بسرعة مع قادته . وجاء خلال نصف ساعة يعتذر يصطحبنا فريق من قواته إلى قوات المارينز الأمامية حيث كنا .واستقبلني القائد هناك الذي اعتذر بدوره ومن هنا بدأت مراقبتنا وتقييد مهمتنا .
كنت اجري اللقاءات مع الاسرى العراقيين من الضباط وأتذكر ما قاله لي عقيد عراقي :كيف تريدنا ان نواجه الاباتشي والاسلحة الفتاكة بكاتيوشا؟ لقم قمت بتسليم نفسي كي أحمي جنودي على النقطة (29 جنديا” ) الذين خلعوا بزاتهم العسكرية ولبسوا اللباس المدني وانخرطوا بين العامة ! وقال لي والدموع بعينه بدون تصوير : لقد كانت هناك فرق من 100000 جندي عراقي ولا ادري لماذا تم سحب الجنود قبل الغزو وهو يّسب قادته… واستغرب لماذا وضعه الامريكيون تحت اشعة الشمس مقيدا” وهو الذي سلّم نفسه.سارعت بالذهاب إلى قائد الوحدة الأمريكي وجادلته أن ذلك مخالفا” للأعراف الدولية واتفاقية جنيف في التعامل مع الأسرى وطلبت منه نقله إلى مكان آخر وفك يديه من طوق من البلاستيك ترك آثارا وورم على رسغه. وشاهدت الاسرى العراقيين مجمعين والتقيت معهم وكنت اشرح لهم كيفية تناول الوجبة التي وزعت عليهم من القوات الأمريكية وكيفية تسخينها بالفحم داخل الكيس بعد أن كانوا يشكون من عدم قدرتهم على تناولها لأنها نيّية أي غير مطبوخة .وهنا حققت شعبية وسط الاسرى حيث ترجمت للقوات الامريكية ماذا يريدون وما يشكون من سوء المعاملة. وعلمت لاحقا” بعد ان تعرضنا لكمين اعتقلنا في الزبير، بان المسؤولين العراقيين شاهدوا أشرطة الفيديو مشاجرتي مع القوات الامريكية لصالح الأسرى العراقيين وقال لي أمين فرع حزب البعث أبو فواز (الذي اغتيل لاحقا”) بأن هذه الاشرطة انقذتنا من الإعدام أنا والطاقم .
لم تدم تغطيتي طويلا” للحرب وربما كنا طعما” ليتم التخلص منا لأسباب عديدة سوف اسردها فيما بعد ، وضلل بنا للوقوع في كمين للثوار العراقيين وتم اعتقالنا من قبل القوات الحكومة العراقية باعتبار أننا دخلنا مع قوات غازية ودون موافقة الحكومة العراقية وتنقلنا من مخبأ إلى آخر إلى ان تم حجزنا في منزل رئيس بلدية الزبير وكنت اشاهد التلفاز العراقي ونستمع للأحاديث عن سير المعارك وعلمت أن 18 جنديا” بريطانيا” قتلوا في الزبير في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير يدلي بتصريحات امام البرلمان عن مقتل جنديين بريطانيين. توسلت للمسؤولين العراقيين السماح لي بتصوير جثث القتلى من الجنود وهذا يدحض الادعاءات ويدعم الحكومة العراقية وقد تسبب باستقالة بلير لكن المسؤول العراقي رفض باعتبار أننا معتقلين ومحكومين بالاعدام .
بقينا قيد الاعتقال إلى حين بدأت الدفاعات العراقية بالسقوط ودخلت القوات البريطانية المدن العراقية وهرب الثوار العراقيون وساعدنا رئيس البلدية بالهروب من منزله بعد أن رفض تسليمنا إلى عناصر من الاستخبارات العراقية . وتم وضعنا داخل سيارته البيك أب باللباس العراقي التقليدي ووجهنا ملثم بالعقال العراقي. اتذكر جيدا” عندما نبهني واصّر رئيس البلدية أبو مهدي أن اخفي عيني الزرقاوين لأن ذلك سيثير الشبهات أثناء مرور عربته وسط الأسواق والمارة في الطريق قبل الوصول إلى نقطة تفتيش بريطانية ليسلمنا ويهرب إلى البراري مع عائلته خوفا” من انتقام المسؤول عن الجنوب القائد علي حسن المجيد “الكيماوي” لعدم انصياعه للأوامر .
لن ادخل بالتفاصيل هنا حول الأسباب والدوافع لابعادنا عن النقل المباشر للغزو الأمريكي –البريطاني والتخلص مننا مبكرا” لأن ذلك يحتاج لكتاب .لكننا تابعنا سير المعارك وسقوط بغداد ولم تكن حربا” بمعنى الكلمة باعتبار ان الولايات المتحدة وبريطانيا استعدادا لحرب من طرف واحد لاسقاط النظام العراقي والتخلص من الرئيس صدام حسين لكتابة صفحة دموية جديدة في تاريخ الاستعمار بدأت بسقوط بغداد ومازالت تداعياتها على معظم دول الجوار والحبل على الجرار حيث سيصل الدمار معظم الدول العربية ضمن خطة محكمة وضعها المحافظون الجدد والاستخبارات البريطانية والاسرائيلية لضمان عدم قيام هذه الأمة العربية وتفتيتها وتقسيمها وإبقائها ضعيفة تقاتل بعضها البعض .
اعتمدت الاستخبارات الامريكية والبريطانية على التكنلوجيا الحديثة والاسلحة الذكية في إلحاق الدمار والحرب النفسية بالاضافة إلى العملاء والخونة في تحديد الأهداف العسكرية والأمنية لإسقاط بغداد. وبدأت بقصف المدن العراقية بصواريخ كروز المطّورة من طراز توماهوك و ألقت الطائرات الحربية الضخمة قنابل”ذكية” لتدمير التحصينات والملاجئ ومنها قنابل حرارية انشطارية تزيد عن 2000 طن وقنابل هوائية للتدمير الشامل ، ضد أهداف عراقية ودمرت العديد من المنشآت والبنى التحتية
أدت إلى سقوط مئات الالاف من العراقيين العسكريين والمدنيين.العراق الجريح الذي مازال يلملم شتاته ويعاني من ويلات الحرب والإرهاب يحاول إيجاد هوية توّحد العراقيين من جديد بعيدا” عن الطائفية والعرقية والاثنية بمساعدة ذات الدول المسؤولة عن تمزيق وتشتيت شعبه ونهب خيراته.
لقد نجحت الولايات المتحدة وحلفائها في تنفيذ خطتها التي رسمتها مجموعة من أقطاب المحافظين الجدد (Clean Break 1996) انتصرت في حربها ومازال العرب يدفعون الثمن سلفا” لهذه الحروب مثل ليبيا وسورية واليمن ونحن على ابواب لحروب اخرى بعد ان اصبح حلف الناتو قابل للايجار في الحروب المدفوعة ثمنها والامثلة حية والقادم اسوأ.
تحية إلى روح الشهداء العراقيين الشرفاء