الرجل المهووس بالنتائج يحلق من ميامي إلى شرم الشيخ لإنقاذ إرث ترمب
عيسى النهاري محرر الشؤون السياسية
جاريد كوشنر ( أ ف ب)
ملخص
ينسب جمهوريون وديمقراطيون الفضل إلى تدخل جاريد كوشنر في تحريك المياه الراكدة وتسريع مفاوضات إنهاء الحرب في غزة بعد نحو عامين، كان نتنياهو يماطل فيها لإطالة أمد الحرب، لكن الأسلوب غير التقليدي لصهر الرئيس لم يسلم من الانتقادات.
عام 2021، انتقل جاريد كوشنر إلى قصر فارهٍ في جزيرة معزولة شمال ميامي، حيث حافظ على حياة بعيدة من الأضواء، ووصف حياته الجديدة قائلاً إنه يعيش ويعمل وكأنه في إجازة لا تنتهي، لكن لم يمض عام على عودة دونالد ترمب للحكم عام 2025، حتى قطع تاجر العقارات تلك الإجازة ليشارك في واحدة من أكثر المفاوضات تعقيداً في العالم، مثيراً الأسئلة حول دوافع هذه العودة المفاجئة، ودوره المحوري في اتفاق غزة.
أسباب العودة
لأشهر نجح بنيامين نتنياهو في إحباط جهود ترمب لإنهاء الحرب داخل غزة عبر مزيج من المماطلة والتصعيد، وثبت أن جهود مبعوثه ستيف ويتكوف وحده غير كافية لتغيير الوضع الراهن، مما مهد لعودة صهره النافذ صاحب العلاقات الواسعة في الشرق الأوسط.
يقول الأكاديمي الأميركي باول سوليفان ضمن حديث إلى “اندبندنت عربية” إن “كوشنر وجد فرصة لمساعدة عائلته ودولته، وقرر المشاركة في المفاوضات”، مشيراً إلى “امتلاكه قوة مالية هائلة، وهو نفوذ يتحول أحياناً إلى صور أخرى من القوة في المنطقة”.
يوم الجمعة الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، كان كوشنر في قصره النائي في ميامي يتلقى اتصالاً تلو الآخر على وقع قرار “حماس” الدخول في محادثات للإفراج عن الرهائن، ومن ثم قاد سيارته لمدة 20 دقيقة نحو قصر آخر يملكه ستيف ويتكوف.
تقول “نيويورك تايمز” خلال تلك اللحظة الحاسمة، لم يكن مركز القوة الدبلوماسية الأميركية في واشنطن بل في واحدة من أثرى مناطق فلوريدا، حيث أنشأ رجلا الأعمال مركز عمليات موقتاً، للتواصل مع الرئيس ترمب ووزراء الحكومة الإسرائيلية.
AFP__20250713__66N92DL__v1__MidRes__UsPoliticsFblWcClub2025Trump.jpg
كوشنر وويتكوف (أ ف ب)
أسوأ ما خشيه كوشنر ذو الأصول اليهودية هو انهيار اتفاقات أبراهام التي أسهم في صياغتها خلال عهد جو بايدن، لكن الأخير كان حريصاً على البناء عليها بدلاً من تقويضها. غير أن ما لم يتوقعه كوشنر أن يتصدع أهم منجز سياسي لترمب في الشرق الأوسط على مرأى ترمب نفسه، نتيجة لتداعيات حرب غزة التي دفعت بأحد أطراف الاتفاق وهي الإمارات إلى التحذير علناً بأن ضم إسرائيل للضفة الغربية سيقوض روح اتفاقات أبراهام.
في الخفاء أمضى كوشنر ثمانية أشهر يصوغ مع توني بلير خطة لإنهاء الحرب، وبرز دوره خلال أغسطس (آب) الماضي بعدما حضر مع بلير اجتماعاً داخل البيت الأبيض برئاسة ترمب، مما مهد الطريق لإعلان خطة الـ20 بنداً. وأخيراً، جاءت رحلة كوشنر مع ويتكوف إلى مصر لتسيطر على عناوين اجتماعات شرم الشيخ، ولم يمض يوم حتى أعلن التوصل إلى اتفاق على تنفيذ المرحلة الأولى من خطة السلام.
تحريك المياه الراكدة
ينسب جمهوريون وديمقراطيون الفضل إلى تدخل كوشنر في تحريك المياه الراكدة، فحتى السفير الأميركي السابق لدى إسرائيل في عهد جو بايدن توماس نايدز أقر بأن كوشنر يعرف كيف يتعامل مع نتنياهو، ويفهم الدول العربية جيداً، وقال “انس مواقفي السياسية، أنا أكثر من مستعد لأمنحه ما يستحق من تقدير”، وكذلك المسؤول السابق في إدارة بايدن آموس هوكستاين لفت إلى الدور المحوري الذي لعبه رجل الأعمال الشاب.
AFP__20251009__789J2G3__v1__MidRes__EgyptUsDiplomacyIsraelPalestinianConflict.jpg
كوشنر وويتكوف في مصر مع الرئيس السيسي (أ ف ب)
كانت إسرائيل قلقة من بيان “حماس” الذي لم يوضح موقفها من التخلي عن سلاحها أو سيطرتها على غزة، لكن كوشنر نجح في إقناع الإسرائيليين بالتركيز على الشق الإيجابي من البيان، وهو استعداد الحركة لتسليم الرهائن. وقال في مقابلة مع “نيويورك تايمز”، “قلنا للإسرائيليين، نشجعكم أن تكونوا إيجابيين أيضاً”، وعندما كان الإسرائيليون يؤكدون أن ’حماس‘ سترفض أي اتفاق من الأساس، قال لهم كوشنر، “هذا هو الوقت المناسب للتفاؤل”.
بعد ساعات، أعلن مكتب نتنياهو الأربعاء الماضي أنه سيوافق على بدء تنفيذ المرحلة الأولى من خطة السلام التي طرحها ترمب، وأمس الخميس، صادقت الحكومة الإسرائيلية على الاتفاق، عقب اجتماع كوشنر وويتكوف بمجلس الوزراء الإسرائيلي لمناقشة تفاصيل الصفقة.
ما الذي تغير؟
كوشنر مرادف للاستقطاب السياسي، فداخل الولايات المتحدة ينتقد بسبب علاقاته التجارية، وعربياً ينتقد بسبب صلاته الوطيدة مع إسرائيل، التي يعدها الفلسطينيون سبباً في قرارات إدارة ترمب المتحيزة ضدهم، ومنها نقل السفارة الأميركية إلى القدس عام 2018. ومع ذلك، فإن عودته صاحبها تسريع لجهود الوساطة في وقف الحرب الإسرائيلية التي أزهقت أرواح الآلاف داخل غزة.
AFP__20200911__1228459941__v1__MidRes__PresidentTrumpAnnouncesBahrainWillEstablishDi.jpg
كوشنر في البيت الأبيض ( أ ف ب)
لعب الثنائي العقاري دوراً تكاملياً، فبينما تولى كوشنر صياغة الخطط ومحاور الحديث في المفاوضات، كان ويتكوف يجري المكالمات الهاتفية. يصف كوشنر المهمة قائلاً، “في عالم العقارات في نيويورك، أنت دائماً في حال تفاوض ذهاباً وإياباً، فهناك كثير مما يجب التفاوض عليه قبل توقيع العقد ودفع المال فعلياً. نحن معتادون على الصفقات المعقدة والمتغيرة باستمرار، ومع شخصيات معقدة أيضاً”.
بخلاف المفاوضين الأميركيين التقليديين، يمتلك كوشنر علاقات وثيقة مع أطراف الصراع والوساطة مثل إسرائيل وقطر، إضافة إلى رؤية يمكن البناء عليها، وهي “خطة السلام من أجل الازدهار”، التي روجت لها إدارة ترمب الأولى عام 2018، لكنها لم تحز رضا الفلسطينيين.
خلال أكتوبر 2023، تحدث كوشنر عن تلك الخطة المتعثرة التي كان عنوانها الفرعي “تحسين حياة الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي”، قائلاً إن رجال الأعمال من مختلف الدول أظهروا القدرة والرغبة في إعمار غزة والاستثمار في مواردها، لكن “حماس” كانت وما زالت العقبة، على حد تصوره. وخلال مارس 2024 طرح كوشنر أفكاراً متشددة وأكثر تحيزاً لإسرائيل خلال جلسة بجامعة هارفرد، إذ لم يشر فحسب إلى قيمة وجدوى العقارات الواقعة على الواجهة البحرية في غزة، بل اقترح “إخلاء المدنيين” للسماح لإسرائيل بتنظيف القطاع، وإعادة إعماره، وهو ما تعتبره الدول العربية خطوة نحو تصفية القضية الفلسطينية.
اقرأ المزيد
اجتماع “سياسي” لترمب حول غزة بمشاركة بلير وكوشنر
كوشنر يكتب سيرته في البيت الأبيض: قطيعة التاريخ
مذكرات كوشنر والطريق إلى الاتفاقات الإبراهيمية
النص الحرفي لـ”خطة ترمب” لوقف الحرب في قطاع غزة
لكن المفارقة أن خطة ترمب التي أسهم كوشنر نفسه في صياغتها تبنت لغة أكثر اتزاناً من ذلك الطرح، فمن جانب تحمل لمساته، من خلال دعوتها إلى إنشاء منطقة اقتصادية خاصة، و”مشاريع عقارية مثيرة”، ومن جانب آخر، تؤكد الخطة أنه “لن يجبر أحد على مغادرة غزة”. كذلك، كان كوشنر قبل عام معارضاً لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ووصفها بأنها “فكرة بالغة السوء”، من شأنها “مكافأة عمل إرهابي”، في إشارة لهجوم “حماس” خلال السابع من أكتوبر 2023. ومع ذلك، فإن خطة السلام اعترفت بـ”المقترح السعودي – الفرنسي” الداعي إلى إقامة دولة فلسطينية، وحددت الشروط اللازمة لذلك، وإن ما زال الغموض يعتري آلية التنفيذ.
فلسفة كوشنر التفاوضية
هذه المفارقات تكشف جانباً من أسلوب كوشنر المرن في المفاوضات، إذ يصف نفسه في أحدث مقابلة بعد الاتفاق بأنه “رجل صفقات”، مما يحتم عليه فهم مطالب ونيات كل طرف، ويضيف قائلاً إن كثراً ممن يجرون المفاوضات السياسية أساتذة تاريخ أو دبلوماسيون، “لكن بالنسبة إلينا، نحن رجال صفقات، والأمر أشبه بلعبة مختلفة تماماً”.
AFP__20200904__1228343612__v1__MidRes__WhiteHousePressSecretaryKayleighMcenanyHoldsB.jpg
أسلوب كوشنر وعلاقاته التجارية جعلته محل انتقادات الديمقراطيين ( أ ف ب)
غير أن هذا الأسلوب تعرض لانتقادات من السيناتور الديمقراطي كريس فان هولن، الذي قال إنه “حتى تنجح المرحلة التالية من هذا الاتفاق على جاريد كوشنر أن يتوقف عن التعامل مع القضية كصفقة عقارية، وأن يركز بدلاً من ذلك على الجوانب السياسية وحقوق الإنسان”.
استفاض كوشنر في شرح الفارق بين نهجه ونهج المسؤولين التقليديين ضمن مقابلة عام 2023 مع ليكس فريدمان، إذ عقد مقارنة بين عقليتي رواد الأعمال والسياسيين داخل واشنطن. في وادي السيليكون، يقبل رواد الأعمال على خوض التحديات الكبرى دون خوف، يسعون إلى حل المشكلات المستحيلة، فإن نجحوا انتقلوا إلى أخرى، وإن فشلوا خاضوا تجربة جديدة بروح المغامرة ذاتها. أما في عالم السياسة فالأمر مختلف، إذ يتجنب كثير من أتباع النهج التقليدي مواجهة القضايا الصعبة خوفاً من الفشل أو خسارة المكانة.
وأبدى تذمره من بيروقراطية الحكومة، قائلاً إن عالم الأعمال يركز على النتائج وتحقيق الأهداف، إذ إذا عملت على مشروع لـ10 أسابيع فقط ولم تحقق نجاحاً، فستجد نفسك بلا وظيفة، أما في الحكومة يمكنك أن تعمل على مشروع لمدة 10 أعوام وتفشل، ثم تتقاعد وينظر إليك كخبير.
AFP__20180829__18P31U__v1__MidRes__CanadaSForeignMinisterChrystiaFreelandInWashingto.jpg
ينتقد كوشنر المسؤولين التقليديين في واشنطن بسبب البطء في الحسم ( أ ف ب)
هذا النهج جعل كوشنر في مواجهة مع مسؤولي إدارة ترمب الأولى، إذ اتهمه وزير الخارجية السابق ريكس تليرسون بعقد محادثات مع قادة أجانب من دون تنسيق مع وزارة الخارجية، وفي إحدى المرات علم تليرسون بأن كوشنر يجتمع مع وزير الخارجية المكسيكي في مطعم داخل واشنطن بالصدفة من خلال مالك المطعم، الذي قال لتليرسون، “قد يهمك معرفة أن وزير خارجية المكسيك يجلس على طاولة في الخلف في حال رغبت في إلقاء التحية عليه”. لكن البيت الأبيض دافع عن كوشنر آنذاك، مشيراً إلى أن محادثاته قادت في النهاية إلى اتفاق تجاري جديد مع المكسيك وكندا.
على أصداء الاختراق الأخير بعد عامين من الحرب الإسرائيلية المدمرة، ربما يمكن تفسير نجاح الإدارة الحالية في دفع مسار السلام داخل غزة، في أنها اختارت سلوك طريق مختلف، فقد استعانت بمبعوثين يمتلكون عقلية رجال الأعمال المهووسة بالنتائج، وتجاوز البيروقراطية. هذه العوامل، وإن لم يتضح بعد ما إذا كانت ستقود إلى سلام مستدام، إلا أنها أسهمت في كسر الجمود وتغيير الوضع الراهن. وبكلمات كوشنر في الماضي، “المشكلات التي نحاول حلها مضى عليها زمن طويل، وإذا استعنت بالأساليب نفسها التي استخدمها الآخرون، فستفشل مثلهم تماماً، ورغم أن اتخاذ نهج جديد لا يعني بالضرورة أنك ستنجح، لكنه على الأقل يعني أنك إن فشلت، فستفشل بطريقة مبتكرة”.

