“كوسترات” الذاكرة العراقية.. باصات صمدت بوجه الحروب تواجه الإقصاء في كركوك

2

منذ أكثر من أربعة عقود، ارتبطت شوارع العراق، ومحافظة كركوك خاصة، بسيارات النقل العام المعروفة بـ”الكوستر”، وخاصة الموديلات التي دخلت البلاد بين عامي 1970 و1980.
هذه الحافلات اليابانية الصنع، ذات الهيكل البسيط والمحرك المتين، لم تكن مجرد مركبات عابرة، بل أصبحت ركيزة أساسية في الحياة اليومية، تنقل ملايين الموظفين والطلبة والجنود والتجار عبر خطوط المدن والأرياف.
ورغم تبدل العالم وتطور صناعة النقل، بقيت تلك الكوسترات القديمة شاهدة على ذاكرة بلد أنهكته الحروب والحصار، واليوم تجد هذه الكوسترات نفسها أمام معركة جديدة مع القوانين والتعليمات التي فرضتها محافظة كركوك، والتي تلزم أصحابها بتحويل لوحاتها من “أجرة” إلى “حمل”، أي إخراجها عملياً من خدمة نقل الركاب بعد أن أدت دورها لعقود طويلة.
ويستذكر أبو مصطفى، سائق من كركوك اشترى سيارته عام 1978، قائلاً إن “سيارتي رافقتني طيلة أيام الحرب مع إيران، وأيام الحصار في التسعينيات، وحتى بعد عام 2003”.
ويشير أبو مصطفى خلال حديثه لوكالة شفق نيوز إلى أننا كنا نصنع قطع غيار بديلة بأيدينا حتى تظل السيارة عاملة، ويضيف: “الكوستر مثل الجندي، يتحمل ولا يشتكي”.
أما صلاح حسن، وهو من أصحاب الكوسترات العاملة حالياً في كركوك، فهو يملك كوستر موديل 1980 وما زال يعتمد عليها في إعالة أسرته.
ويقول لوكالة شفق نيوز إن القرار الحكومي بتحويل السيارة إلى حمل “يقطع رزقي نهائياً”، فهذه السيارة عمرها أربعون عاماً لكنها ماتزال تخدم الناس وتنقل الركاب يومياً متسائلاً “لماذا نُعاقب لمجرد أن سياراتنا قديمة؟”.
سائق آخر في الستين من عمره يدعى أبو محمد يقول، إن السيارة عمرها الآن أكثر من أربعين عاماً، لكنها ما تزال تجلب الرزق لعائلتي “حتى بتنا نحن والكوستر أشبه بعائلة واحدة”.
لكن لكل قصة نهاية فقد “تجاوزت هذه المركبات عمرها الفني المسموح به لنقل الركاب ولا تطابق معايير السلامة”، بحسب مديرية المرور، وبالتالي أصبح السائقون الذين يرفضون التحويل يجدون أنفسهم في مواجهة يومية مع مفارز المرور من غرامات وحجز للسيارات.
ويصف أحد السائقين خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، الوضع الحالي مع المرور بأنه أشبه بـ”المطاردة بين القط والفأر”، مؤكداً أن العمل في الوقت الحالي عبارة عن قلق ومحاولة التملص من أعين عناصر المرور لتجنب الغرامات أو الحجز أحياناً.
من جهته يؤكد مصدر في مرور كركوك، لوكالة شفق نيوز، أن “الإجراءات هي جزء من خطة حكومية لإعادة تنظيم قطاع النقل، خاصة أن الكوسترات القديمة تفتقر إلى شروط الفحص الفني وتشكل خطراً على الركاب، لذلك لا يوجد استهداف للسائقين، وإنما هي عملية تهدف إلى حماية الأرواح وتحديث النقل”.
ويتفق مع هذه الأسباب الخبير في شؤون النقل علي حسن خليل، حيث يبين أن “الكوسترات موديل السبعينيات والثمانينيات تجاوزت العمر الفني لها، لذلك الحكومة محقة في هذا الجانب”.
لكن خليل استدرك قائلاً لوكالة شفق نيوز، إن “الحكومة كان عليها وضع خطة انتقالية تدريجية تشمل توفير قروض ميسّرة للسائقين لشراء مركبات حديثة، أو إنشاء شركات نقل تعاونية تجمعهم وتعيد تنظيم عملهم، بدلاً من القرارات الفجائية التي تضعهم في مواجهة مباشرة مع المرور”.
ومع قرب طوي صفحة هذه الكوسترات التي قاومت الحرب والحصار وتقلّبت بين الصيانة البدائية والظروف الصعبة، يقول أحد الركاب القدامى لوكالة شفق نيوز متحسراً: “الكوستر ليس مجرد سيارة فقط، بل هو دفتر ذكرياتنا، ركبناه أطفالاً وطلاباً وموظفين، ومع اختفائه يختفي جزء كبير من حياتنا”.

التعليقات معطلة.