يكشف الصحافي المخضرم دونالد ماكنتاير كيف أثار ادعاؤه بأن صدام كان “سيئاً ولكنه ليس مجنوناً بما فيه الكفاية” لبدء الحرب، القلق في 10 داونينغ ستريت.
غلاف ملف “أسلحة الدمار الشامل في العراق” (غيتي/ اندبندنت)
كانت لحظة مميزة تلك التي اضطر فيها أليستر كامبل إلى الاعتراف بأن “اندبندنت” كانت تتصرف على نحو يليق باسمها. بدى الصراع في العراق وشيكا جداً.
وخلال مأدبة غداء في مبنى الصحيفة كان حضرها بالنيابة عن رئيسه توني بلير، سأل كامبل الذي كان يومذاك مدير الاتصالات في 10 داونينغ ستريت، عمن يؤيد الحرب من بين الموجودين في الغرفة. رفع كل من توني أوريلي، مالك الصحيفة في تلك الفترة، و وزوجته كريس غولاندريس، وإيفان فالون الرئيس التنفيذي، أيديهم.
وكما أذكر، لم يرفع أي من كبار الصحافيين الحاضرين، بمن فيهم سايمون كيلنر رئيس التحرير، يده. وعلى نحو يستحق الثناء، لم يردع أوريلي كيلنر الذي قاد كما ينبغي معارضة الصحيفة المنطقية للحرب في العراق، أقله من دون قرار ثان للأمم المتحدة يفوض صراحة بشنها، وذلك على امتداد فترة شملت أواخر عام 2002 والربع الأول من عام 2003.
نعم، نشرت الصحيفة مقالات مؤيدة للحرب تحمل أسماء أصحابها وأخرى معارضة لها. لكن ما عليك إلا أن تلقي نظرة على عناوين عدد من الافتتاحيات (التي لاتحمل أسماء كتابها) لتعرف الموقف الذي اتخذته “اندبندنت”.
كانوا يقرأون الصحيفة في 10 داونينغ ستريت بالتأكيد في الفترة التي سبقت الحرب، كما كنت سأعرف عندما انتشرت رسالة بريد إلكتروني من جوناثان باول، رئيس موظفي بلير، أثناء تحقيق اللورد هاتون في وفاة ديفيد كيلي، خبير الأسلحة البيولوجية في وزراة الدفاع.
وتوفي الدكتور كيلي منتحراً في يوليو (تموز) 2003، بعدما تم إثبات أنه كان مصدر [معلومات تضمنها] تقرير بثته “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) يزعم أن الحكومة “أضفت إثارة مبالغ فيها” على “الملف المزيف” [بما يتعلق بـ] تحديد التهديد الذي يمثله صدام حسين.
رسالة باول الإلكترونية كانت وُجهت إلى جون سكارلت، رئيس لجنة الاستخبارات المشتركة الذي صار لاحقاً رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية “إم آي 6” MI6 ، تماماً قبيل نشر الملف.
ويذكر باول في الرسالة أن التصريح الذي جاء فيه أن الديكتاتور العراقي سيستخدم “الأسلحة الكيماوية والبيولوجية إذا ما اعتقد بأن نظامه عرضة للتهديد” كان [يمثل] “مشكلة إلى حد ما”.
وأضاف أن ذلك “يدعم حجة دونالد ماكنتاير [كاتب هذه المقالة] بأنه ليس هناك تهديد من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية وأننا سنخلق هذا التهديد فقط إذا ما هاجمناه. أعتقد بأنه يجب عليك إعادة صياغة الفقرة. ما أذكره من المعلومات الاستخباراتية هو أنه أنشأ [قدرات] أسلحة كيماوية وبيولوجية لاستهداف القوات الغربية بها”.
جوناثان باول، رئيس موظفي توني بلير، يغادر المحكمة العليا في أعقاب الإدلاء بشهادته في تحقيق هاتون (غيتي)
الإشارة الى عمود كنت تساءلت فيه ما إذا كان صدام “مجنوناً” وأيضاً “سيئاً” بما فيه الكفاية للمجازفة باستخدام أسلحة دمار شامل ضد الغرب، كانت أقل أهمية من فكرة إعادة صياغة الملف من قبل سكارليت.
وعند تحديه لكي يعترف بأنه فعل ذلك [إعادة الصياغة] بناء على أوامر 10 داونينغ ستريت، أصر سكارليت على أنه اطلع على المعلومات الاستخباراتية مرة أخرى وصار الآن متفقاً مع باول.
وقبل اللورد هاتون التفسير، كما قبل في الواقع بشكل عام بقية دفاع الحكومة ضد التهمة بأنها “أضفت إثارة مبالغ فيها” على الملف، مما أثار انتقادات بما فيها تلك التي طرحتها “اندبندنت” والتي اعتبرت فيها أن تقريره [هاتون] كان عبارة عن “تبييض لصفحة” [الحكومة].
وحالما اندلعت الحرب، صارت تحظى بتغطية يومية واسعة النطاق بطبيعة الحال. وعندما وصلت إلى بغداد في مايو (أيار) 2003، رأيت بنفسي كم كانت القوات الأميركية بعيدة من الوفاء بالوعد الذي قطعه الرئيس بوش في فبراير (شباط) من ذلك العام ببناء عراق “ملهم” عندما تضع الحرب الساخنة أوزارها.
وفيما تكدست القمامة في الشوارع وأخضعت وزارة النفط للحراسة بشكل فريد تحسباً لعمليات النهب، كان مستشفى القادسية في مدينة الصدر، المزدحم بالأطفال ممن كانوا يشكون سواء من وباء التهاب المعدة والأمعاء أو من إصابات ناجمة عن ذخائر لم تنفجر[أثناء القتال]، يعاني نقصاً شديداً في الكهرباء والمياه النظيفة.
جنود أميركيون يمرون بآليتهم العسكرية قرب احتجاج في حي بمدينة الصدر، 25 اغسطس (آب) 2003 (أ ف ب/ غيتي)
وفي يوم واحد عندما كان الأميركيون “يعيدون المدينة الى حالها العادية” رسمياً، استقال وزير الصحة، وشب حريق في مقسم الهاتف المركزي، وفي مقر قيادة الشرطة المركزي، شاهدت مسؤولاً أميركياً يقيل على نحو فوري [من دون الإجراءات القانونية المعتادة] جنرالاً غير موثوق به كانت وزارة الخارجية عينته قائداً لشرطة البلاد.
وكان كل هذا قبل أن يقوم بول بريمر، الحاكم العام الأميركي [رئيس سلطة الائتلاف الموقتة] بحل الجيش العراقي، وهي خطوة لقيت انتقادات شديدة لأنها زرعت بذور تمرد “داعش”.
ومع ذلك، كان لا يزال هناك أمل. ففي النجف التي وصلت إليها بعدما قطعت بالسيارة مسافة 91 ميلاً من بغداد في أوائل صيف 2003، كان الصحافيون الأجانب أمثالي يحاطون بالعراقيين الذين شعروا بارتياح عميق بسبب سقوط صدام وأخذوا يتجادلون حول نوع العراق الحر الذي يريدونه.
وبعد ما يزيد بقليل على العام، صارت الحال المزاجية متشائمة في المدينة نفسها التي بات الوصول إليها في تلك المرحلة متعذراً إلا عبر طريق غير آمن سافرنا عليه وقد أخفينا أنفسنا وراء جرائد عربية مفتوحة على أمل أن نخدع الخاطفين الذي احتجزوا سلفاً عدداً من الصحافيين الأجانب.
الدخان المتصاعد من خنادق النفط المحترقة يغطي بغداد في 2 أبريل (نيسان) 2003 (أ ف ب/ غيتي)
الصور باقية في أذهاننا من أغسطس (آب) عندما قاتلت القوات الأميركية جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر حول مسجد الإمام علي. وعلى التراب المقدس لمقبرة وادي السلام الشاسعة في النجف والمليئة بندوب خلفتها المعارك، قامت عائلة شيعية مدنية فقيرة من بغداد بدفن أحد أقاربها مع طفليه الذين قتلوا في غارة ليلية أميركية سارت على نحو خاطئ.
ومع تسبب طائرة حربية أميركية في تفجير مدوٍّ من خلال إطلاق صاروخ على بعد مئات الأمتار، لوّح حفار القبور يائساً بغطاء أبيض فوق رأسه على أمل ردع مزيد من الهجمات. وقال علوي لافي،59 سنة، وهو ابن عم القتيل، “لا أعرف من الذي يسيطر على العراق. ونسأل الله أن يمنّ علينا بالأمن والاستقرار”.
وفي قاعة المحكمة الشرعية، تم عرض 15 جثة متفحمة ومنتفخة بشكل غريب، متحللة ومجهولة الهوية بعد [التوصل إلى] هدنة مضطربة في ثلاثة أسابيع من القتال المستمر.
وبالعودة لبغداد، كافح رجال الإطفاء ألسنة اللهب مع تصاعد عمود دخان أسود من الكنيسة الأرمنية المدمرة في أعقاب موجة من الهجمات الانتحارية المتزامنة بواسطة سيارات مفخخة أسفرت عن مقتل 14 مصلياً في الأقل وكانت نذير شؤم بهروب المسيحيين بشكل شبه كامل من المدنية.
لم يكن “الأمن والاستقرار” هما ما ينتظر العراق. في الواقع، كان مصير العنف أن يتفاقم، بما في ذلك الصراع الدموي الداخلي بين السنة والشيعة الذي كان روبرت فيسك، مراسل “اندبندنت” في الشرق الأوسط، توقعه قبل بدء الحرب.
بحلول ذلك الوقت كنت عدت لقاعدتي في القدس. وبالنسبة إلى “اندبندنت”، فقد استمرت تغطيتها للحرب، كما كانت الحال على الداوم، من خلال أولئك الذين كانت رحلاتهم إلى العراق أكثر استدامة بكثير من الفترتين اللتين قضيتهما هناك خلال أسابيع قليلة، وهم فيسك نفسه وباتريك كوكبيرن وكيم سينغوبتا، ولكن كان بينهم أيضاً فيل ريفز وأندرو بونكومب وجاستين هاغلر.
وبالعودة لفترة ما قبل الحرب، تحديداً 19 مارس (آذار) 2003، اليوم التالي لتصويت مجلس العموم لمصلحة الحرب وقبل اندلاعها بيوم واحد، أشادت افتتاحية “اندبندنت” بالخطاب الذي ألقاه بلير في اليوم السابق حول الافتراض المنتشر على نطاق واسع بأنه كانت لدى صدام حسين أسلحة دمار شامل، مع أنه كان سيثبت لاحقاً أنه [افتراض] خاطئ.
لكنها قالت أيضاً إنه “طالما كان من الممكن تجنب الحرب، فقد عارضناها”، وإن كل ما يمكن أن نأمله الآن هو إنهاؤها بشكل سريع، وإبقاء الضحايا في الحد الأدنى، وإعادة إعمار شاملة في فترة ما بعد الحرب، ونهاية عادلة للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وهذه لا تزال حتى اليوم أكثر صعوبة مما كانت عليه في ذلك الوقت.
وأضافت الصحيفة، في نبوءة تستشرف المستقبل، “يتبين أن الصراع الدموي المديد هو ثمن لا يستحق الدفع”.