كيف تتسع «أحضان» ألمانيا للسيسي وممالك الخليج وتضيق بأردوغان؟

1

 

لا صوت يعلو في ألمانيا على صوت الخلافات مع أنقرة، والذي لا تكاد تهدأ إحدى جولاته حتى يشتعل مجددًا. للوهلة الأولى، لا يظهر أنّ العلاقة بين البلدين مرشحة إلا للتعاون الذي يقود إلى المزيد من التعاون، إذ يحمل ملايين الأتراك جنسية ألمانيا ويعيشون على أراضيها، كما يطير ملايين الألمان إلى تركيا كل عام للاستمتاع بشواطئ تركيا ومدنها التاريخية، كما تحتضن تركيا نحو 7 آلاف شركة ألمانية، ويبلغ حجم التجارة بين البلدين حوالي 36 مليار دولار سنويًا. إلا أنه، ورغم كل ذلك، كانت الشهور السابقة حافلة باضطرابٍ شديد في العلاقة بين البلدين.

برلين «تضيق ذرعًا» بأنقرة

بدأت الجولة الحالية من الصدام قبل أكثر من العام بقليل، عقب الانقلاب الفاشل الذي جرى في تركيا في يوليو (تموز) 2016، لم تُبدِ برلين حماستها للحملة الحكومية التي أعقبت الانقلاب ضد «جماعة الخدمة» وزعيمها رجل الدين «فتح الله كولن»، وفي حين لم يكن الألمان وحيدين في هذا التوجه، بل كانوا ضمن طيفٍ واسع من الأوروبيين الذين بدوا غاضبين من إجراءات ما بعد محاولة الانقلاب بأقل من غضبهم من الانقلاب ذاته، إلا أن الألمان كانوا الأكثر صراحة بين الجميع.

في مارس (آذار) الماضي، أفضى «برونو كال» رئيس جهاز المخابرات الألمانية إلى صحيفة «دير شبيغل» بأنه ليس مقتنعًا أن فتح الله كولن كان وراء محاولة الانقلاب الصيف الماضي، وقال: «لقد حاولت تركيا إقناعنا على كل المستويات، لكنها لم تنجح بعد»، وحين سئل «كال» عن رأيه في منظمة كولن، وهل يعتبرها متشددة أو إرهابية، قال إنها «منظمة مدنية تهدف إلى تقديم المزيد من التعاليم الدينية والعلمانية».

ذهب الألمان أبعد من ذلك في تعاطفهم مع مناوئي أردوغان، فمنحوا حق اللجوء لأعضاء من جماعة الخدمة – بينهم عسكريون ودبلوماسيون – تتهمهم تركيا بالضلوع في محاولة الانقلاب، كما حذرت الحكومة الألمانية أنقرة أنها لن تتهاون مع «التجسس الخارجي» على أراضيها، وذلك بعد تقارير إعلامية اتهمت أجهزة الاستخبارات التركية بالتجسس على مؤيدي كولن على الأراضي الألمانية.

تصاعدت الأزمة إلى أقصى مستوى في مارس الماضي، حين قررت ألمانيا رفض السماح لوزراء أتراك بمخاطبة ناخبيهم في ألمانيا، وهو ما أثار عاصفة غضب تركية، إذ وصف الرئيس التركي ألمانيا بـ«النازية التي لا تحترم حرية الرأي»، وهو الاتهام الذي يقع من الألمان موقعًا شديد الحساسية، قبل أن تهدأ الأمور قليلًا بعد مرور سحابة الاستفتاء العابرة. وقد ردت تركيا على تلك الخطوات، بمنع برلمانيين ألمان من زيارة جنودهم في قاعدة «إنجرليك» العسكرية جنوبي تركيا، الأمر الذي دفع البرلمان الألماني إلى التصويت بسحب الجنود من القاعدة، ونقلهم إلى إحدى المنشآت في الأردن.

استمر الخلاف بين البلدين يتصاعد يومًا بعد يوم، رفعت ألمانيا في معركتها السياسية تلك شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونادت بأن أردوغان في طريقه إلى تقويض تلك المبادئ في تركيا، فندَّدت برلين بإعلان الرئيس التركي استعداده لإعادة العمل بعقوبة الإعدام في البلاد «إذا رغب الشعب في ذلك» مؤكدة أنها لن تسمح باستفتاء مثل هذا على أراضيها، وقد أدى اعتقال السلطات التركية لناشطين حقوقيين بينهم مواطن ألماني إلى تأزيم الوضع مجددًا بين البلدين أكثر فأكثر، فاتخذت ألمانيا نهجًا أكثر تشددًا تجاه أنقرة، كما طالبت مواطنيها بتوخي الحذر في سفرهم إلى تركيا، محذرة مواطنيها وشركاتها من أنهم معرضون «للاعتقال التعسفي» حال السفر إلى تركيا.

لكن هل حقوق الإنسان حقًا هي ما يؤرّق مضاجع المسؤولين الألمان من تركيا، هل تحدد برلين أولويات سياستها الخارجية بناء على مؤشرات المنظمات الحقوقية والاعتبارات الإنسانية؟

«دفتر أصدقاء ألمانيا» مليء بالحكومات غير الديمقراطية

في الأثناء ذاتها التي كانت الحرب الكلامية على أشدها بين المسؤولين الألمان ونظرائهم في تركيا، كان وزير الخارجية المصري يحلّ ضيفًا على «فيديريكا موجيريني» – الممثلة العليا للسياسة الخارجية والشؤون الأمنية بالاتحاد الأوروبي – في بروكسل، حيث انعقد مجلس الشراكة المصرية الأوروبية، وتتضمن هذه الشراكة «دعم مصر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، والحكم الرشيد، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، والهجرة، والأمن، ومحاربة الإرهاب، والتعاون في السياسة الخارجية من خلال مشاورات مكثفة حول القضايا الإقليمية والدولية».

كان انعقاد ذلك المجلس بعد غياب سبع سنوات، وبشروط خلت أو كادت من أي ذكر فعّال لحقوق الإنسان أو معايير الديمقراطية، هدية كبرى للنظام المصري، الذي حصل على اعتراف ودعم أوروبي بلا أثمان سياسية تقريبًا، دعم ما كان له أن يحصل عليه لولا الدعم الذي تلقاه من تحت الطاولة وفوقها من كبرى دول الاتحاد الأوروبي، وقاطرته السياسية والاقتصادية، ألمانيا.

اقرأ أيضًا:- كيف استقبلت ألمانيا السيسي؟

أوائل مارس (آذار) الماضي، حلّت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ضيفًا على المسؤولين المصريين في القاهرة، لم تلقِ ميركل بالًا كبيرًا لانتقادات الصحافة الألمانية وتحفظاتها على الزيارة، ولم تأبه كثيرًا لتقارير المؤسسات الحقوقية بشأن أوضاع الحريات السياسية في مصر، ولم تكن بعد قد هدأت أنباء الطالب الإيطالي المقتول «جوليو ريجيني»، وباستثناء تلميحات بسيطة بخصوص تسهيل عمل المؤسسات الألمانية العاملة في مصر، فقد اقتصر جدول أعمال المستشارة على أمور رأتها أكثر أهمية، في مقدمتها مسألة وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا.

اعتبرت تلك الزيارة بمثابة رسالة ألمانية صريحة لدعم النظام المصري، وزاد الألمان من الشعر بيتًا حين أقر البرلمان (البوندستاغ) اتفاقية للتعاون الأمني مع مصر، تركز بنودها بشكلٍ رئيس على «مكافحة الإرهاب والتطرف»، وبمقتضاها تلقى ضباط أمن مصريون تدريبات لدى الشرطة الاتحادية الألمانية، الأمر الذي جر على المسؤولين انتقادات حقوقية وإعلامية ضد الاتفاقية التي رفضتها أحزاب الخضر واليسار.

السلاح الألماني يباع بغير رقيب أو حسيب.. و«الخليج» من أبرز المستفيدين

لا يجب أن نستمر في التودد إلى ذلك النظام الوحشي، يجب أن يتوقف توريد السلاح إلى هؤلاء، ولا يمكن أن تستمر وزيرة الدفاع في التبختر على السجادة الحمراء هناك من دون إصدار بيانات قوية. *النائب عن حزب الخضر أغنيسكا بروجر، تعقيبًا على زيارة سابقة لوزيرة الدفاع الألمانية إلى الرياض.
بعكس تركيا، وكما هو الحال مع مصر، لا تضع حكومة المستشارة ميركل مسألة «حقوق الإنسان» في الاعتبار كثيرًا وهي تتعامل مع حكومات الخليج، بالرغم من السجلات الحقوقية «غير النظيفة» لهذه الحكومات، وفيما كانت الخارجية الألمانية تكيل التصريح تلو التصريح مهاجمة أردوغان و«تسلطه»، حلت طائرة ميركل في السعودية ثمَّ الإمارات لبحث التعاون الاقتصادي والعسكري مع تلك البلدان، التي لم يكن لها من الانتقادات الألمانية غير تلميحات بسيطة لا تعكر صفو الزيارة.

وبالرغم من أن السعودية لم تحقق تقدمًا يُذكر في السياق الحقوقي، فقد ظلت الأسلحة الألمانية تتدفق على الرياض وفق اتفاقات تسليح وتدريب ضخمة بين البلدين، وقد أثارت تلك الصفقات استياء المعارضة الألمانية التي ما برحت تكرر أن استمرار التعاون العسكري مع الرياض بهذه الطريقة يخالف القواعد والأسس السليمة التي يجب أن تسير عليها السياسة الخارجية لبرلين.

رسم بياني يوضح مبيعات السلاح الألمانية إلى السعودية سنويًا – تصميم دويتشه فيله.
الأمر ذاته ينطبق على مقاربة الألمان للعلاقات مع الإمارات، إذ وقَّع البلدان قبل أشهر قليلة صفقة سلاح ضخمة قضت بتوريد معدات عسكرية وأمنية إلى أبو ظبي، بالرغم من مشاركة الأخيرة في حرب اليمن – التي لا تتحمس لها برلين كثيرًا وتطالب بإنهاء الأزمة هناك بشكل سلمي -، وقد أثارت تلك الصفقة كذلك امتعاض البعض مخالفة لإرشادات تصدير السلاح في البلاد، والتي ترفض بيع أسلحة يمكن أن تستخدمها أنظمة وحكومات في قمع شعوبها أو ارتكاب انتهاكات ضد حقوق الإنسان.

ويبدو أن الحكومة الألمانية لا تجبر نفسها كثيرًا على الالتزام بتلك الإرشادات، فبالرغم من التقارير المتعددة التي تحدثت عن انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان تصل إلى «جرائم حرب» ارتكبها مقاتلون أكراد ضد السكان العرب شمالي العراق، فقد ظلت أطنان الأسلحة الألمانية تتدفق على البيشمركة الكردية، ولم تهتم الحكومة الألمانية كثيرًا بضمان الوجهة الحقيقية التي يمكن أن تتوجه لها فوهات البنادق الألمانية.

التعليقات معطلة.