معظمهم تقبلها بسهولة وآخرون تظاهروا بذلك لكن بعضهم اعتبرها ذات دوافع سياسية
طارق الشامي صحافي متخصص في الشؤون الأميركية والعربية
كانت السخرية السياسية على مدى تاريخ الولايات المتحدة أداة فاعلة في تشكيل صورة الرؤساء والتأثير في الرأي العام والكشف عن العيوب وتصويب الأخطاء (أ ف ب)
ملخص
بحلول أواخر ستينيات القرن الماضي، كانت للسخرية قوة ضاربة، وكان السياسيون يدركون ذلك. فقد كان القانون واضحاً، مما سمح للشخصيات الكوميدية الساخرة بالتمتع بحماية واسعة بموجب التعديل الأول للدستور، وجعل برنامج “ساترداي نايت لايف” قاسياً جداً على جيرالد فورد.
أدى إلغاء برنامج الكوميدي الساخر جيمي كيميل على شبكة “أي بي سي” ثم عودته مرة أخرى تحت ضغط انتقادات واسعة من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، إلى فتح باب النقاش أمام دور الكوميديا الساخرة في السياسة الأميركية منذ نشأة الولايات المتحدة وحتى الآن، سواء كانت من الرؤساء أنفسهم أو ضدهم، وما إذا كانت هذه الكوميديا الساخرة متسقة مع الدستور الأميركي. فكيف تعامل الرؤساء الأميركيون تاريخياً مع الكوميديا الساخرة؟
السياسة مزحة
الفكاهة السياسية جزء أصيل من الطبيعة البشرية، وهي قديمة بقدم الإنسان بحسب ما تقول جودي بومغارتنر مؤلفة كتاب “السياسة مزحة” الذي يشير إلى أن الأميركيين لديهم تاريخ طويل في السخرية من قادتهم، فمن المقالات إلى الرسوم المتحركة وحتى التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، يتعرض الرؤساء للسخرية، ومعظمهم يتقبلها ببساطة لأنها مرتبطة بأن الرئيس أقوى شخص في البلاد. إلا أن عدداً قليلاً من الرؤساء لم يتقبل السخرية والانتقاد بسهولة، وكان آخرهم الرئيس دونالد ترمب الذي امتدح إغلاق برنامج “جيمي كيميل لايف” ولم يخفِ رغبته في إغلاق بقية برامج الكوميديا الساخرة التي تبث في وقت متأخر من الليل لأنها تنتقده على الدوام، وسط جدل واسع بين السياسيين والإعلاميين والمثقفين في المجتمع الأميركي.
والسبب في ذلك أن السخرية السياسية شكلت على مدى تاريخ الولايات المتحدة أداة فاعلة في تشكيل صورة الرؤساء والتأثير في الرأي العام والكشف عن العيوب وتصويب الأخطاء. فقد حول رونالد ريغان الأسئلة المتعلقة بعمره إلى نكتة، وسخر باراك أوباما من أذنيه خلال حفل عشاء مراسلي البيت الأبيض، وحتى جورج دبليو بوش الذي كان هدفاً لنكات لا تنتهي، تعلم أن يبتسم ويتعايش مع الأمر، لكن ترمب ومن قبله جون كينيدي وليندون جونسون وريتشارد نيكسون لم يتقبلوا النكات وحاولوا معاقبة من يطلقونها عبر استخدام سلطة الرئاسة لملاحقة مقدمي البرامج الساخرة من الكوميديين.
الفكاهة السياسية جزء أصيل من الطبيعة البشرية وهي قديمة بقدم الإنسان (أ ف ب)
صراع مستمر
ولا يبدو أن الخلاف حول مدى حرية الإعلاميين والكوميديين الساخرين من الرؤساء، بل حتى المواطنين العاديين سينتهي قريباً. فقد ظل التساؤل حول ما إذا كان السياسيون يمكنهم تقبل النكتة أو سيحاولون إسكات الضحك مطروحاً بعد ستة عقود من حكم المحكمة العليا عام 1964 في قضية “نيويورك تايمز” ضد سوليفان، إذ قضت المحكمة بأن على المسؤولين الحكوميين إثبات النية الخبيثة الفعلية للفوز في قضية تشهير إذا كان الهدف سياسياً، مما يعني أن الكوميديين ورسامي الكاريكاتير والساخرين يتمتعون بمساحة واسعة عند السخرية من الشخصيات السياسية.
أما إذا سخر الكوميديون من المشاهير أو الناس العاديين، فإنهم يخاطرون برفع دعاوى قضائية بتهمة التشهير أو انتهاك الخصوصية، ولهذا يحاسب المسؤولون الحكوميون بمعايير أعلى، وتصبح السخرية السياسية من أقوى أنواع التعبير المحمية بموجب التعديل الأول من الدستور الأميركي، على رغم استمرار بعضهم في رفض هذه السخرية واعتبارها نوعاً من تشويه الحقائق الذي تقوده دوافع سياسية يحركها الخصوم السياسيون، مثلما يعتقد ترمب ومن قبله نيكسون.
من ينتصر؟
تشير الكاتبة جودي بومغارتنر إلى أن السياسيين الذين يبدو أنهم يفتقرون إلى حس الفكاهة يجعلون أنفسهم هدفاً أكبر للساخرين، ويخاطرون بعزل أنفسهم عن المشرعين والجمهور، بينما يحذر أستاذ الإعلام والسياسة المجتمعية في جامعة بنسلفانيا بن جيلوس من أن الأمر لا يتعلق بمشاهدة جيمي كيميل على شبكة “أي بي سي” أو ستيفن كولبير على شبكة “سي بي أس”، بل برغبة الأميركيين في العيش في بلد يقرر فيه الرئيس النكات المسموح بها، وإذا كان الهجوم بدأ اليوم بإيعاز من البيت الأبيض ضد مقدمي البرامج المسائية، فربما يطاول غداً رساماً كاريكاتيرياً أو طالباً جامعياً أو كاتباً في صحيفة أو مخرجاً في هوليوود أو حتى مواطناً عادياً ينشر نقداً أو نكتة سياسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى رغم حملة المعارضة التي تفجرت أخيراً من الليبراليين والمحافظين على حد سواء ضد محاولة إغلاق برنامج جماهيري على أساس أن قوة أميركا لا تكمن في أن قادتها فوق السخرية، بل في قدرتهم على تجاوزها، وأن الرئيس الذي لا يتقبل النكتة، لا يتقبل النقد ومن ثم قد لا يؤتمن على الحرية، لا تزال بعض التجارب التاريخية مقلقة مما يمكن أن تشهده أميركا خلال الصراع المستمر بين إدارة ترمب وبرامج الكوميديا الساخرة خلال الأشهر والأعوام المقبلة، مما يبقي الإجابة حول من ينتصر مفتوحة إلى حد بعيد، وفي ما يلي أبرز النماذج المعبرة عن كيفية تعامل الرؤساء الأميركيين مع الكوميديا الساخرة سواء كانت من خصومهم أو ضد أنفسهم.
الرئاسات المبكرة
في السباق الرئاسي عام 1800، استخدم توماس جيفرسون وجون آدامز الصحف الحزبية المتنافسة لشن هجمات ساخرة ضد بعضهم بعضاً. واتسمت الحملات الانتخابية بضراوة بالغة ومليئة بالإهانات الشخصية والاتهامات الفاضحة، وعلى سبيل المثال صورت الرسوم الكاريكاتيرية جيفرسون على أنه فوضوي مدمن للبراندي ويحاول خرق الدستور، لكنه على رغم الهجمات، فاز في الانتخابات.
وخلال ثلاثينيات القرن الـ19، كان أندرو جاكسون موضوعاً متكرراً للسخرية من قبل المعارضين الذين خشوا استخدامه للسلطة الرئاسية، فصوره رسم كاريكاتيري شهير عام 1832 على أنه “الملك أندرو”، واقفاً على الدستور، وسخر رسم كاريكاتيري آخر عام 1835 من سياساته تجاه السكان الأميركيين الأصليين، إذ صوره ساخراً على أنه أب رحيم.
قبل توليه الرئاسة، كان أبراهام لينكولن ساخراً ماهراً استخدم الفكاهة لسحق خصومه السياسيين (أ ف ب)
أبراهام لينكولن
كان الرئيس الـ16 لأميركا هدفاً شائعاً خلال الحرب الأهلية، إذ سخرت الرسوم الكاريكاتيرية للمؤيدين والمعارضين على حد سواء من تعامله مع الحرب وتوسيعه لسلطاته الرئاسية وميله إلى إلقاء النكات خلال الأزمات الوطنية، فبينما صوره بعضهم بطلاً يحارب العبودية، سخر بعضهم الآخر من تعامله مع الحرب ومظهره الشخصي.
وقبل توليه الرئاسة، كان أبراهام لينكولن ساخراً ماهراً، وأحياناً لا يرحم، استخدم الفكاهة لسحق خصومه السياسيين. ففي مناظراته ضد ستيفن دوغلاس خلال سباق مجلس الشيوخ عام 1858 وصف سياسة دوغلاس حول العبودية بأنها هشة كحساء يحضر بغلي ظل حمامة ماتت جوعاً، وخلال الحملة الرئاسية عام 1848، ألقى لينكولن خطاباً سخر فيه من الديمقراطيين الذين زعم أنهم ما زالوا متمسكين بأذيال الراحل أندرو جاكسون، مشيراً إلى أن “شعبية جاكسون ما زالت كافية كي تجعل عدداً من الرجال الصغار يقتربون من منصب الرئاسة”.
وخلال فترة لينكولن، أسهم الرسام الكاريكاتيري الشهير توماس ناست في تشكيل السياسة الأميركية في النصف الأخير من القرن الـ19 عبر ابتكار رموز بارزة مثل الفيل للحزب الجمهوري والحمار للحزب الديمقراطي، كما أسهمت رسومه الكاريكاتيرية في إسقاط السياسي الفاسد في مدينة نيويورك بوس تويد الذي اشتكى من أن ناخبيه، على رغم عدم قدرتهم على القراءة، لا يسعهم إلا رؤية صور توماس ناست.
وكان توماس ناست يلقب بـ”أبو الكاريكاتير الأميركي”، وهو من ابتكر صورة “سانتا كلوز” (بابا نويل) الحديثة، ومن أهم أعماله سلسلة رسومه الكاريكاتيرية في مجلة “هاربر ويكلي”، وكان من أشد المؤيدين للاتحاد الفيدرالي خلال الحرب الأهلية، ودافع عن وجهات النظر الجمهورية التقدمية عبر فنه، حتى وصفه أبراهام لينكولن بأنه أفضل رقيب تجنيد.
ثيودور روزفلت
مع بدايات القرن الـ20، انضمت الشخصيات الأدبية أيضاً إلى استخدام السخرية لانتقاد السياسات الرئاسية. فكان مارك توين ناقداً شرساً للتوسع الأميركي، وسخر من السياسة الخارجية للرئيس ثيودور روزفلت في الفيليبين والصين، ووصف الحملات العسكرية لأميركا بأنها غارات قراصنة، وضمن مقالته لعام 1901 بعنوان “إلى الشخص الجالس في الظلام”، نعت روزفلت بـ”توم سوير” عالم السياسة، وهو شخصية خيالية ابتكرها مارك توين في رواياته وغالباً ما صورها على أنها لفتى شقي ماكر واسع الخيال يحب المغامرة، وكثيراً ما يقع في المشكلات، ولكنه في النهاية طيب القلب.
فرانكلين روزفلت
كان روزفلت هدفاً شائعاً لرسامي الكاريكاتير الذين استخدموا السخرية لانتقاد سياساته المتعلقة بالصفقة الجديدة ولجوئه المفرط غير المسبوق للسلطة التنفيذية، فانتقد أحد الرسوم الكاريكاتيرية البارزة عام 1937 خطة روزفلت لتوسيع المحكمة العليا، ورمزت الصورة التي أظهرت محاولة روزفلت على أنها عمل تمثيلي، إلى المخاوف من تجاوز السلطة التنفيذية والتدخل السياسي في السلطة القضائية.
دوايت أيزنهاور
خلال مؤتمر صحافي عقد عام 1960، اشتهر أيزنهاور باستخدامه السخرية للتقليل من تأثير نائبه ريتشارد نيكسون في إدارته، وعندما سأله أحد المراسلين عن مثال على فكرة رئيسة لنيكسون تبناها، قال أيزنهاور مازحاً “إذا منحتني أسبوعاً من الوقت، قد أفكر في واحدة لأنني لا أتذكر الآن”.
جون كينيدي
شعر رؤساء آخرون بتهديد أكبر، وخلال إدارة الرئيس جون كينيدي، حقق ألبوم “العائلة الأولى” للكاتب الساخر فون ميدر نجاحاً كبيراً، إذ تخيل ضمنه كيف كانت ستكون حفلات عشاء عائلته مع السيدة الأولى زوجة الرئيس جاكلين كينيدي.
واتضح أن الرئيس كينيدي كان منزعجاً جداً من ألبوم ميدر، لدرجة أنه طلب من سكرتيره الصحافي التحقيق في الأمر. وأشار أستاذ التاريخ الأميركي لدى جامعة ماونت سانت جوزيف في سينسيناتي بيتر روبنسون أن كينيدي وجه من خلف الكواليس، كبار المسؤولين في لجنة الاتصالات الفيدرالية للبحث عن سبل لمنع انتشار هذه الأنواع من المحاكاة الساخرة.
مع بدايات القرن الـ20، انضمت الشخصيات الأدبية أيضاً إلى استخدام السخرية لانتقاد السياسات الرئاسية (أ ف ب)
ليندون جونسون
اشتهر جونسون بحس فكاهة فظ، وغالباً ما كان يستخدمه لتخويف الآخرين والسخرية منهم. فقد كان يضحك في العلن ويغضب في السر. ومن الناحية الظاهرية، بدا ليندون جونسون يتمتع بروح رياضية، ظهرت عندما أرسل إليه الأخوان سمذرز (وهما من أشهر الشخصيات الكوميدية التلفزيونية الساخرة خلال الستينيات) رسالة يعتذران فيها من سخريتهما منه، وأجاب الرئيس بكلمات منشورة بدت نبيلة للغاية، قائلاً إن “استهداف الساخرين الأذكياء جزء من ثمن قيادة هذه الأمة العظيمة والحرة، فقد وهبتم شعبنا موهبة الضحك حتى لا نصبح أبداً كئيبين أو مغرورين لدرجة أن نفقد تقدير الفكاهة في حياتنا”.
وبدا أن لدى الرئيس روحاً متسامحة، بل القدرة على السخرية من نفسه، لكن خلف الكواليس، لم يكُن جونسون مستمتعاً على الإطلاق، إذ يقال إنه اتصل هاتفياً برئيس قناة “سي بي أس” ويليام بيلي، مطالباً إياه بإبعاد “هؤلاء الأوغاد” في إشارة إلى الأخوين سمذرز.
وعلى رغم شعبية البرنامج، ألغته شبكت “سي بي أس” فجأة عام 1969، بزعم أن النصوص لم تقدم في الوقت المناسب لمراجعتها من قبل الرقابة. ورفع الأخوان سمذرز دعوى قضائية، وفازا بما يقارب المليون دولار عام 1973، ورسخا سمعتهما كأبطال مناهضين لثقافة التقييد السائدة، لكنهما كانا أدرجا فعلياً في القائمة السوداء للبرامج التلفزيونية.
ومع ذلك، لم يكُن جونسون بلا حس فكاهي، فكان يعتمد على سرد قصص تكساس كلما احتاج إلى كسر حدة التوتر، وكان يلقي قصصاً طويلة وشعبية بلهجته الريفية، مضيفاً إليها نكاتاً عن مزارع الماشية وعبارات ساخرة بذيئة، غير أن حس دعابة جونسون لم يكُن مهذباً أو مناسباً للتلفزيون، وعلى سبيل المثال سخر من نفسه بعد جراحة في المرارة، ومازح الصحافيين قائلاً لهم إن لم تعجبهم رؤية ندبته، فربما يريهم شيئاً آخر بينما وقف مع كلبه، رافعاً إياه من أذنيه المتدليتين، لكنه كان ناجحاً في حياته الخاصة، وأبقى الناس في حال من عدم التوازن وتحت سيطرته.
ريتشارد نيكسون
في خضم حرب فيتنام والتحولات المجتمعية في نهاية الستينيات، حولت ثقافة البوب الناس إلى تبني الفكاهة والاحتجاج والتمرد بتعبيرات مصممة للصدمة والتسلية، كانت أشبه بـ”ميمات” التواصل الاجتماعي القصيرة والقابلة للمشاركة في ذلك الوقت والتي انتقلت من شخص إلى آخر كمحتوى فيروسي قبل وجود الإنترنت.
لكن ريتشارد نيكسون شعر بتهديد شديد من الانتقادات، فأنشأ قائمة أعداء ضمت الكوميديين ديك غريغوري وبيل كوسبي وهما من أبرز الكوميديين الأميركيين من أصل أفريقي من نشطاء الحقوق المدنية خلال ستينيات القرن الـ20، ولم يكره نيكسون السخرية وحسب، بل تعامل معها كعملية عدوانية، إذ تشير سيرته إلى أنه استعان بمحقق خاص للتحقيق في قضية الأخوين سمذرز، وهما ثنائي للموسيقى الشعبية والكوميديا، يتألف من الأخوين توم وديك سمذرز اللذين اشتهرا ببرنامجهما “ساعة الكوميديا للأخوة سمذرز” الذي حظي بشعبية واسعة وأثار جدلاً واسعاً بسبب سخريته السياسية.
لكن في الوقت نفسه، أدرك نيكسون أن لديه مشكلة في صورته لدى الأميركيين، إذ كان ينظر إليه على أنه متصلب وغريب الأطوار وعديم الفكاهة، لذلك ظهر فجأة خلال حملة عام 1968 في برنامج “إضحك مع روان ومارتن” لتغيير هذه الصورة، وهناك اكتسب قوة هائلة حين استبق سخريتهما المعهودة بالقول “هاتا أقوى ما لديكما، أدهشاني”، فقد كانت جملته القصيرة المحرجة لا تنسى وضربة عبقرية في العلاقات العامة، تضاهي ظهور كبار السياسيين والرؤساء اليوم في برامج المساء المتأخرة، إذ نجحت كثيراً بأن ضحك الناس معه بدلاً من أن يضحكوا عليه.
ومنذ ذلك الحين، لم يستطِع أي ظهور كوميدي ساخر أن يخفي جنون نيكسون العميق وعداءه تجاه النقاد، لكن هذا الشعور بعدم الأمان الذي دفعه إلى انتقاد الساخرين، هو نفسه الذي دمر رئاسته في النهاية حين تفجرت فضيحة “ووترغيت”، فلم تنقذه جميع نكات العالم من الاستقالة بصورة مخزية في التاسع من أغسطس (آب) عام 1974.
جيرالد فورد
بحلول أواخر ستينيات القرن الماضي، كانت للسخرية قوة ضاربة، وكان السياسيون يدركون ذلك. وكان القانون واضحاً مما سمح للشخصيات الكوميدية الساخرة بالتمتع بحماية واسعة بموجب التعديل الأول للدستور، مما جعل برنامج “ساترداي نايت لايف” قاسياً جداً على جيرالد فورد، إذ قدم تشيفي تشيس تقليداً لشخصية فورد، مبنياً على حوادث جسدية مؤسفة تعرض لها مثل تعثره على درج طائرة الرئاسة أو تشابكه مع الميكروفونات أو سقوطه من على المنصة.
ومع ذلك بدا الرئيس فورد مستمتعاً، فعام 1976، دعي تشيفي تشيس إلى تقديم حفل عشاء البيت الأبيض لمراسلي الإذاعة والتلفزيون السنوي، وبعد أن قلده وفورد جالساً هناك، تعامل فورد نفسه مع الموقف بسخرية وسحب مفرش الطاولة معه إلى المنصة وعبث بأوراقه، فقد أدرك أن هذا كله جزء من الروتين، وتعلم، أنه عندما تكون رئيساً، عليك أن تضع نفسك في هذا الموضع، وحظي هذا التصرف بقبول الجمهور.
اقرأ المزيد
رؤساء أميركا في هوليوود والدراما “مثالية زائفة”
الدين ورؤساء أميركا… أبعد من شأن شخصي
رؤساء أميركا كما عاصرتهم
كيف يمضي رؤساء أميركا وأوروبا حياتهم بعد التقاعد؟
الكوميديا… صناعة أفسدها سؤال الضحك
جيمي كارتر
على رغم أن الرئيس جيمي كارتر كان قليل المزاح، فإنه كان يقبل انتقاده من الشخصيات الإعلامية الساخرة، بل إنه سخر من نفسه مازحاً بعد مغادرته البيت الأبيض، وقال “لقد ارتفع تقديري في هذا البلد بصورة كبيرة، ومن اللطيف جداً الآن أن يلوح الناس لي، فهم يستخدمون كل أصابعهم.
رونالد ريغان
كان رونالد ريغان، الممثل السابق، بارعاً في استخدام الفكاهة لدرء الانتقادات وتقديم نفسه على أنه قائد محبوب، وكثيراً ما استخدم النكات الساخرة من نفسه لتحسين صورته. وخلال مناظرته عام 1984 مع والتر مونديل، تطرق ريغان إلى المخاوف حول سنه بقوله “لن أجعل السن قضية في هذه الحملة، ولن أستغل شباب خصمي وقلة خبرته لأغراض سياسية”.
ومع ذلك، كان ريغان قادراً على السيطرة على الخطاب، فعام 1986، عندما أرسل له الكونغرس مشروع قانون موازنة ضخماً من 1100 صفحة، ألقى ريغان خطاباً أمام الكونغرس وإلى جانبه ثلاثة مجلدات ضخمة من مشروع القانون، ثم دفعها جانباً أثناء حديثه، وهز معصمه مازحاً للتأكيد على ثقلها، ولهذا عبرت هذه اللحظة بفاعلية عن انتقاده لمشروع الإنفاق في الكونغرس بطريقة فكاهية لا تنسى.
بيل كلينتون
استغل كلينتون حفل عشاء مراسلي البيت الأبيض لتهدئة الفضائح المحتملة من خلال المزاح حول الخلافات، بما في ذلك جمع التبرعات وقضية مونيكا لوينسكي.
جورج دبليو بوش
غالباً ما استهدفت السخرية خلال رئاسة بوش زلاته في الخطابة العامة، المعروفة باسم “البوشية”، والمزاج العام في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول) عام 2001، إذ قدم الممثل الكوميدي ويل فيريل دور بوش في برنامج “ساترداي نايت لايف” وصور غاري ترودو بوش على أنه يفتقر إلى الذكاء ويعجز عن التعبير عن نفسه، وسخر برنامج كوميدي قصير الأمد من البيت الأبيض خلال عهد بوش على غرار مسلسلات السبعينيات الكوميدية، مصوراً الرئيس على أنه أحمق في جوهره ولكنه حسن النية.
وأصبح برنامج “ذا ديلي شو مع جون ستيوارت” صوتاً بارزاً للسخرية بعد أحداث الـ11 من سبتمبر، مستخدماً أسلوباً إخبارياً زائفاً لانتقاد سياسات الإدارة، ولا سيما حربي العراق وأفغانستان.
سخر برنامج كوميدي قصير الأمد من البيت الأبيض خلال عهد بوش على غرار مسلسلات السبعينيات الكوميدية (أ ف ب)
باراك أوباما
كان أوباما بارعاً في استخدام الفكاهة والسخرية، وكثيراً ما كان يسخر من نفسه ومن خصومه السياسيين خلال حفل عشاء مراسلي البيت الأبيض السنوي، كما أصبحت الكوميديا إحدى أقوى أدواته الخطابية. ويعد أوباما هو المفضل لدى الكوميديين، فعلى رغم أنهم سخروا منه أيضاً، فإنه أثبت مراراً قدرته على تقبل النكات، بل إنه سخر من نفسه حين قال أمام مراسلي البيت الأبيض إن أذنيه كانت مصدر إلهام لفيلم كارتوني شهير باسم “شريك”، كما ظهر أوباما في البرنامج الحواري الساخر مع زاك غاليفياناكيس للترويج لقانون الرعاية الصحية الميسرة، مازجاً بين التواصل السياسي والكوميديا الساخرة. واشتهر موقع “ذا أونيون” الإخباري الساخر برسم كاريكاتيري مطول ومبالغ فيه لنائب الرئيس آنذاك جو بايدن، مصوراً إياه على أنه نائب رئيس رائع يرتدي نظارات شمسية.
دونالد ترمب (2017-2021)
اتخذ ترمب نهجاً مختلفاً تماماً، متجنباً إلى حد كبير السخرية من نفسه، ومال أكثر إلى مهاجمة الكوميديين الذين سخروا منه مثل ستيفن كولبير وجيمي كيميل، وانتقادهم له، وأثار جدلاً حول دور السخرية في المجتمع الحر، وكان تجسيد الممثل الساخر أليك بالدوين لدونالد ترمب بدءاً من عام 2016 جزءاً أساساً من النقاش السياسي.
وأثبتت رئاسة ترمب أنها شكلت تحدياً فريداً للساخرين الذين واجهوا صعوبة في محاكاة شخصية تعتبر بالفعل مبالغة في تصوير سياسي عادي، إذ اتجه الساخرون إلى تصوير شخصية ترمب المتعالية، بخاصة في برنامج “ساترداي نايت لايف” الذي اكتسب اهتماماً وشهرة عالمية أوسع بسبب علاقة ترمب المتوترة بالبرنامج.
ولاحظ بعض المعلقين أن خطاب ترمب وأفعاله كانت مبالغة لدرجة أن السخرية غالباً ما عجزت عن تجاوز الواقع، وأصبح حفل عشاء مراسلي البيت الأبيض الذي تغيب عنه ترمب، نقطة خلاف حول دور الكوميديا السياسية ونبرتها.
وفي يونيو (حزيران) عام 2021، انتشر خبر طلب دونالد ترمب من مستشاريه ومحاميه التحقيق في ما إذا كان بإمكان وزارة العدل التحقيق في مصادر البرامج الكوميدية الساخرة التي تبث في وقت متأخر من الليل مثل برنامج “ساترداي نايت لايف”، والتي تسخر منه، لكن الأمر المفاجئ أن ترمب، عادةً ما كان يلجأ إلى “إكس” للرد والتعقيب بعد أن يرى سخرية تنتقده، وهو تصرف ترى أستاذة الشؤون الدولية والأدب المقارن في جامعة ولاية بنسلفانيا ومديرة مركز الدراسات العالمية صوفيا ماكلينن أنه “يعكس نوعاً من الاستبداد لأن القادة المنتخبين ديمقراطياً لا يظهرون حساسية مفرطة تجاه النقد”.
لكن النقطة المحورية هي أن ترمب لم يكتفِ بالشكوى، بل بحث في إمكان إيجاد سبل لتقييد الكوميديا السياسية التي تستهدفه.
كان أوباما بارعاً في استخدام الفكاهة والسخرية (أ ف ب)
جو بايدن
ظلت الصور الساخرة جزءاً من المشهد السياسي خلال رئاسة بايدن، بما في ذلك المحاكاة الساخرة التي طال أمدها له في برنامج “ساترداي نايت لايف”، إذ ركزت السخرية التي تستهدف بايدن على عمره وزلاته الكلامية وعودته لأسلوب سياسي أكثر تقليدية بعد الاضطرابات التي شهدتها أعوام ترمب في دورته الأولى.
وكان تصوير جيم كاري في برنامج “ساترداي نايت لايف” خلال حملة انتخابات 2020 مثالاً على ذلك، كما انتشرت أيضاً رسوم كاريكاتيرية لعمره تصوره أحياناً على أنه نائم أو منفصل عن الواقع.
عادت شكوى ترمب من الإعلام والساخرين منه مع عودته للبيت الأبيض (ا ف ب)
دونالد ترمب 2025
ومع عودة ترمب للبيت الأبيض، عادت شكواه من الإعلام والساخرين منه، ودخل في دعاوى قضائية ضد صحف عريقة مثل “نيويورك تايمز” و”وول ستريت جورنال”، كما مارس ضغوطاً قيل إنها تسببت في إيقاف برنامج ستيفن كولبير بدءاً من العام المقبل على شبكة “سي بي أس” قبل أن يصل الصراع إلى ذروته مع وقف برنامج “جيمي كيميل لايف” قبل أيام قليلة بعد ضغوط مارسها رئيس لجنة الاتصالات الفيدرالية المعين من قبل ترمب.
وبينما لا تزال أصداء المعركة الأخيرة مستمرة، يتزايد الجدل حول الخطوط الفاصلة بين النقد الساخر للرؤساء والتشويه المتعمد الذي تقوده الدوافع السياسية، لكن ذلك لا ينفي أن الأميركيين عموماً يكرهون أن يتهموا بعدم امتلاك حس الفكاهة. وكما قال مارك توين ذات مرة، يمتلك الجنس البشري سلاحاً فاعلاً للغاية هو الضحك، مما يشمل القدرة على الضحك على نفسك، وكما يقول الأستاذ في جامعة بنسلفانيا بن جيلوس “عندما لا يستطيع الرؤساء الضحك على أنفسهم، يتوقف المواطنون عن الضحك، وعندما يتوقف المواطنون عن الضحك، يتوقفون عن التساؤل، وهذا الصمت هو الخطوة الأولى نحو الخضوع”.