كيف يمكن التعايش مع ترمب في عالم الإمبراطوريات؟

2

عندما ترشح الرئيس الأميركي دونالد ترمب لولايته الأولى لم يظن أحد أنه سيفوز، وعندما خسر التجديد لولايته، وأصر على أنه كسبه، وصفه الجميع بالعيش في عالم منفصل، لكنه استمر في روايته، وترشح للمرة الثالثة، مؤكداً فوزه ما لم تُزوَّر الانتخابات، ورغم تشكيك كثيرين، فإنه فاز فوزاً ساحقاً، وربح مجلسَي النواب والشيوخ. وفور تسلمه السلطة وفَّى بوعوده، فأصدر مائة مرسوم، متفوقاً على سابقيه، وبدأت ماكينته تعمل لإصلاح المؤسسات الأميركية لجعل «أميركا عظيمة ثانية». وكعادته؛ تجاوز كل الأعراف المتبعة بتصريحات أفقدت قادة العالم توازنهم؛ فهدد باحتلال غرينلاند، وقناة بنما، واقترح تحويل شواطئ غزة واجهةً سياحية، ونقل سكانها، وفرضَ رسوماً جمركية على الأعداء والحلفاء على السواء؛ وتساءل الجميع: ماذا يريد؟ أجادٌّ في تصريحاته؟ وهل يرضى حلفاؤه؟ وماذا سيفعل أعداؤه؟

أولاً: يقرن ترمب قوله بالفعل، وإن تراجع فمن باب التكتيك لنيل الحد الأقصى. وثانياً، لا يعترف بالنظام العالمي القائم، ويعدّه ضاراً بمصالحه، ويريد صياغة عالم آخر تكسب فيه أميركا دائماً. وهذا سيؤدي إلى هدم النظام الدولي، أو تعديله، ليتلاءم مع نظرته، ونظرته للمصلحة ضيقة وغير شرعية، ويرى القوة وسيلة لتحقيقها؛ لأنه يفكر بعقلية الإمبراطور؛ والإمبراطور يكره الخسارة، ويمتهن القانون… وبهذا؛ فإن ترمب ليس استثناءً في تاريخ أميركا، بل سبقه، كما يقول الفيلسوف أليكس توكفيل مؤلف كتاب «الديمقراطية في أميركا»، الرئيسُ الأميركي السابع، آندرو جاكسون، بتقمص مزايا الإمبراطور نابليون. وترمب يريد استرجاع مجد أميركا ووقف استغلالها، وشرع في تغيير الاقتصاد النيوليبرالي، المسؤول عن إقفال المصانع الأميركية ونقلها إلى الصين سعياً للربح، واستعادة تلك المصانع لاستيعاب الطبقة العاملة، ويعمل على تصحيح العجز في الميزان التجاري، وإحياء الثقافة المحافظة، وترحيل اللاجئين غير النظاميين…

هذه المساعي تستدعي حتماً الربط بين السياستين الداخلية والخارجية بحيث تحدد الأولى توجهات الثانية؛ وبذلك تصبح المنفعة المادية هي المعيار وليست القيم والمبادئ. وهذا نمط اعتادته الإمبراطوريات، مثل بريطانيا عندما توسعت خارج حدودها لإرضاء نخبها المالية، وإيجاد فرص عمل لطبقتها العمالية؛ وكانت الفكرة آنذاك تشجيع رجال الأعمال في الداخل للحصول على عوائد مالية عالية شرط بناء المصانع المشغلة للطبقة العاملة التي ستستفيد بالتنقيط، والتوسع خارجياً لإيجاد أراضٍ جديدة تكون أسواقاً مربحة، ومقصداً كذلك للطبقة العاطلة عن العمل. وترمب اعتمد سردية مشابهة وذكية بدعوته المستثمرين الأجانب إلى الاستثمار في أميركا لجني أرباح عالية شرط تشغيل المصانع الأميركية وامتصاص العمالة الوطنية، وبدأ بترحيل العمالة غير النظامية بالقوة إلى بلادها لمنع منافستها الأميركيين؛ وكما احتلت امبراطورية بريطانيا أراضيَ وتوسعت، يود ترمب استعادة غرينلاند من الدنمارك، وقناة بنما، وتطوير قطاع غزة سياحياً ثم نقل سكانه لدول مجاورة، وإجبار الصين وغيرها على شراء منتجات بلاده لتصحيح العجز في الميزان التجاري… هذا التفكير «الإمبراطوري» سيخلخل حتماً كل المؤسسات الدولية المُنشأة بعد الحرب العالمية الثانية، والمستندة إلى القانون، ويعيد العالم لمبدأ «توازن القوى» السائد في القرن التاسع عشر.

صدمة قادة العالم إزاء هذا التفكير الإمبراطوري أرجعها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير إلى ممارسة قادة العالم السياسة وفق قواعد نظام الحرب العالمية الثانية، ودونما انتباه لتغيِّره، ودعاهم إلى التعامل بذكاء مع العالم الجديد. هذه «الدعوة البليرية» فحواها أن ظاهرة ترمب ليست ظرفية، بل دائمة، ولهذا قدم بعض النصائح في كتابه «فن القيادة: دروس للقرن الحادي والعشرين» للقادة؛ منها ضرورة رسم خطط للحكم، وتحديد الأولويات، وأوصاهم بالصبر، والتركيز على الأهداف، وحساب التبعات جيداً. الغريب أن هذه النصيحة طبقها ترمب، وتجاهلها قادة أوروبا، لكنهم استفاقوا مؤخراً. الثابت أن كل قادة العالم الآن يحاولون التأقلم مع ترمب ولا يحبذون مواجهته، لإدراكهم أن ضريبة تحديه ستكون باهظة، وهم يتقاطرون إلى «روما الجديدة» (واشنطن) لملاقاته، ومصادقته؛ وهذا الأسلوب في المصادقة والتودد ناجع، ومجرب تاريخياً، لكنه لا يكفي؛ بل يجب أن يصحبه عقد التحالفات، وتعزيز الاقتصاد، وبناء القوة العسكرية، وتحصين المناعة المجتمعية؛ لأن الإمبراطور يحترم القوة، ويحتقر الضعف، ومن يراقب تعامل ترمب مع الصين وروسيا وحتى كوريا الشمالية يرى حرصه وتفهمه لهم، بينما لا يتورع في المقابل عن استفزاز حلفائه من أوروبيين وغيرهم؛ لقناعته بأنهم يحتاجونه، ويقبلون طلباته مرغمين. لكن التاريخ علمنا أن شعور الإمبراطور بفائض القوة يُغبِّشُ رؤيته الواقع، ويُغضب حلفاءه، ويقوي أعداءه، وبذلك تزول هيبته وتسقط سطوته.

العالم كله يتطلع الآن إلى ترمب، وهو، كباقي الأباطرة، لا تسعه الأرض؛ بل يبحث عمّا وراءها، ومثلما تطلع يوماً الثَريُّ سيسيل رودس، أيام الإمبراطورية البريطانية، إلى النجوم المشعة في السماء، وتمنى استعمارها، فسيُغدق ترمب مال الدولة على صديقه إيلون ماسك لبدء رحلة الصعود إلى المريخ لاستعماره.

ما أعظم طموحات الإمبراطور.

التعليقات معطلة.