وثائقي حاول إفهامنا سطوة “المال والسلطة” على الديمقراطية قديماً وتآمر كثر لإخفاء الحقيقة
هشام اليتيم صحافي أردني
الأربعاء 3 أبريل 2024 12:52
كينيدي ملوحاً من سيارته في الموكب الرئاسي قبل دقيقة واحدة تقريباً من اغتياله (أ ف ب)
ملخص
اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي تميز بكونه جريمة القتل التي دشنت فترة من الغموض في التاريخ الأميركي المعاصر، والتي استمرت لما يقارب 6 عقود
في عام 1963 انضم الرئيس الديمقراطي جون فيتزغيرالد كينيدي إلى قائمة الزعماء الأميركيين الذين قتلوا بالرصاص أثناء تأديتهم واجباتهم الوطنية، والذين كان أشهرهم أبراهام لينكولن سنة 1865م وجيمس جارفيلد في 1881، ووليام ماكينلي الذي قتل سنة 1901، لكن اغتيال كينيدي تميز بكونه جريمة القتل التي دشنت فترة من الغموض في التاريخ الأميركي المعاصر، والتي استمرت لما يقارب ستة عقود.
ووفق استطلاعات الرأي المتعاقبة في أميركا التي كان أشهرها استطلاع مؤسسة “غالوب”، فإن 19 في المئة من الأميركيين “غير متأكدين” من كون جريمة اغتيال الرئيس مؤامرة كبيرة اشتركت بها جماعة أو عناصر من جهات متعددة، فيما نسبة أعلى منهم تعتقد أنها جريمة تقليدية نفذها – الماركسي المتهم بكونه مختلاً عقلياً – لي هارفي أوزوالد وحده، على طريقة “الذئب المنفرد”.
وبسرعة مريبة كشف عن القاتل، وحفظت القضية بصورة سرية، فأدى إصرار السلطة على الاحتفاظ بشيء من الأوراق والوثائق إلى استمرار تناول القضية إعلامياً بين حين وآخر، إذ أكدت ذلك أعمال وثائقية كثيرة كان من أبرزها الوثائقي الذي عرض تحت اسم “jfk to 9\11” في سنة 2014، والذي يعاد عرضه باستمرار حتى يومنا هذا.
مفارقة
تكمن المفارقة في قصة اغتيال الزعيم كينيدي في أن الوقائع المريبة شكلت أكثر من حكاية مع الوقت، وذلك كون الحكاية الأولى حكاية سرية أو مخفية، إذ تصر السلطات الأميركية على تأجيل الكشف عن كامل الوثائق التي تتعلق بالاغتيال بصورة متكررة، لذلك أصبحت هذه الأجزاء المخفية من القصة، والتي لا تزيد نسبتها على 3 في المئة من قصة الاغتيال، هي الحكاية الكبيرة أو الرئيسة التي تحاول عامة الناس ووسائل الإعلام الوصول إليها، فيما جاء الوثائقي الذي أعده وكتبه فرانسيس ريتشارد كونولي في 2014 بمثابة العمل الفارق بين كثير من الأعمال، إذ ربط الفيلم بين اغتيال كينيدي وأحداث أخرى غيرت شكل العالم كان على رأسها تفجيرات برجي التجارة الحرة العالمية ضمن ما عرف بأحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) الشهيرة.
القصة ليست سرية
سؤال، ما الذي تغير حقاً في حكاية اغتيال الرئيس الأميركي الراحل جون ف كينيدي الحقيقية منذ 1963 وحتى يومنا هذا؟ والإجابة عن هذا السؤال بصورة بسيطة ومباشرة هي، لا شيء. فالحكاية الحقيقية انتهت في حدود الواحدة ظهراً من يوم الاغتيال، وتحديداً مع إعلان وفاة الرئيس السابق في أحد مستشفيات تكساس بعد تعرضه لإطلاق نار مباشر في الرأس، من خلال سلاح قناص واحد أو أكثر، فيما تثير القرارات الرئاسية التي ينشر مزيد من الوثائق السرية بين حين وآخر الحدث مجدداً عبر شبكات التواصل ومختلف وسائل الإعلام.
مطلق النار الذي ضبط بعد الحادثة (أوزوالد) كان يعتنق الماركسية (أ ف ب)
حكاية ثانية
من جهة ثانية غطت كثرة الأعمال المتعلقة بالاغتيال في بعض الأحيان على الحكاية الحقيقية التي تحولت مع الوقت إلى حكاية ثانية، مع أنها الحكاية الفعلية، أو الواقعية، التي حدثت في ذلك التاريخ، والتي لم يختلف كثر على صحة معظم – إن لم يكن كل – وقائعها، لكنها صارت مع الوقت حكاية صغيرة جداً أو فرعية، لأنها تتضاءل يومياً في مقابل تطور الحكاية السرية “المرعبة” التي تتطور باستمرار عبر الشاشات وعوالم السوشيال ميديا، فيما كان أبرز الأعمال التي تناولت الحكاية الفعلية أخيراً إلى جانب فيلم “jfk to 9\11” كتاب (الشاهد الأخير final witness the) لضابط الحماية السرية السابق (بول لانديس)، فيما ظهرت أعمال كثيرة نشرت عن الاغتيال غيرهما.
أعمال أكثر إقناعاً
يكمن سر قدرة الحكاية على إثارة اهتمام الناس في أميركا والعالم في قوة القضية التي دافع عنها زعيم العالم الحر وقتها، والتي تلخصت في رفض تحقيق الأمن من خلال استمرار الحروب، وعلى رأسها حرب فيتنام.
اقرأ المزيد
اغتيال جون أف كينيدي يحتفظ بألغازه حتى بعد 60 عاماً
“عشيقة” جون كينيدي تكشف عن علاقتهما السرية
جون كينيدي “أمر جهاز الخدمة السرية بالبقاء بعيداً” قبل اغتياله
مع ذلك نجحت أعمال قليلة للغاية بين حين وآخر في إظهار وجهة النظر هذه، كون بعض الأعمال السينمائية والوثائقية وبعض الكتب والمقالات التي تناولت الحكاية لم تكن دقيقة، وعرضت بعضها لقضية الرئيس المغدور بطريقة مريبة، إذ تناولت وسائل إعلام كبيرة قضية اغتيال الرئيس في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بصورة سطحية، ليتضح بعد حين – وفق الوثائقي المذكور ذاته – وجود فساد إعلامي، طاول رموزاً من كبار الصحافيين والنقاد والشعراء وبعض الرموز العلمية التي تناولت الاغتيال، من داخل المجتمع الأميركي وفي بعض أنحاء القارة الأوروبية.
بعد 2014
بعد التاريخ المذكور، وهو 2014 الذي أنتج فيه العمل الوثائقي الخاص بالمؤرخ (كونولي) تحولت الحكاية السرية إلى قصة أكثر إقناعاً لدى كثير من المتابعين. مع ذلك، هاجم بعض الآراء الفيلم الذي وثق قصة اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون ف كينيدي من خلال نظرية المؤامرة.
وعبر بعض المعلقين على الفيلم عبر مواقع عرضه على الشبكة العنكبوتية عن اعتقادهم أن هذا الفيلم الوثائقي أفرط في تجسيد القصة، لأن القصة التي عرضها على رغم جرأتها ما هي إلا قصة تقليدية للغاية، وهي بمثابة حكاية أخرى تحدثت عن قدرة السلطة والمال على التلاعب بمصير العالم وبحياة وأرواح كثير من الفقراء والضعفاء عبر الحروب ومن أجل زيادة ثروة قلة قليلة من الناس دون غيرهم حول العالم.
أحداث تثير الحكاية
تثير حكاية كينيدي التي تناولها الوثائقي من زاوية خاصة، مسألة مهمة، وهي كون الضحية في الحكاية كان رئيساً أسبق للولايات المتحدة، وهو زعيم وممثل القوة الكبرى التي خرجت منتصرة بعد حربين عالميتين شرستين. وكون الضحية من طبقة سياسية مرموقة، إذ يزداد الاهتمام بهذه الحكاية أو بشيء من تفاصيلها باستمرار، بسبب وقوع أحداث ذات صلة بهذا الحدث. ومن أهمها استمرار التنافس التجاري العسكري وتمويل الحروب، والذي تزامن مع أكثر من تأجيل لموعد الكشف عن بقية وثائق الحكاية. علماً أن نسبة الوثائق المخفية بلغت في (2017) ثلاثة في المئة من الوثائق كاملة، في مقابل كشف السلطات عما يقارب 97 في المئة من وثائق الحكاية السرية، التي تبلغ أكثر من خمسة ملايين وثيقة.
سر تكرار الحكاية
وفق هذا الوثائقي وأعمال أخرى، تكمن المفارقة التي تؤدي إلى تكرار إثارة الحكاية باستمرار، في شعور الجماهير بأن الحقيقة وراء قتل كينيدي لن تكشف أبداً، وذلك لأنها مرتبطة بأسماء وشخصيات متنفذة للغاية. وبمجتمعات سرية، وعصابات إجرامية، هذا عدا عن ارتباطها بالمتغيرات السياسية الكبرى التي ما زال بعضها متفاعلاً حتى يومنا هذا، والتي تحدد موازين القوة في العالم قديماً وحديثاً.
رسالة سلبية
بصورة غير مباشرة أيضاً ينقل هذا العمل رسالة محبطة للجماهير، فالتركيز على تاريخ نفوذ السلطتين المالية والسياسية يقول بوضوح إن علينا أن نيأس من تغيير الواقع، وأن نعيش هذه الحياة دون أن نقاوم تلك الكتلة المتوحشة التي يكونها اجتماع كل من السلطة والمال، إذ تبدو المعركة التي حاول كينيدي الفوز بها من زاوية النظر هذه، بمثابة استفزاز عبثي أدى إلى هجوم العالم العميق الفاسد الذي تسيطر عليه الجريمة المنظمة على واحد من أقوى رموز العالم الحر والمتحضر.
فساد سياسي
لم يكذب الوثائقي المذكور أجزاءً مهمة من الرواية القديمة قبل 2014، ومنها أن تجمعاً عسكرياً صناعياً وجهاز الاستخبارات الأميركية، كانا يريدان – بشدة – من الرئيس الذهاب إلى مزيد من الحروب. وبالطبع كان وراء هذان الجهازان مجموعة من الشركات الصناعية الكبيرة التي تولت إنتاج الأسلحة للجيش الأميركي، لكن الزعيم الديمقراطي والرئيس الراحل رفض التزام إرسال الجنود الأميركيين إلى فيتنام، لأن وظيفته تتعلق بمنع الحروب وليس إشعالها وفي حماية المواطنين من ويلات الحروب، بدل تركهم يكتوون بنيرانها.
من القاتل؟
كان مطلق النار الذي ضبط بعد الحادثة (أوزوالد) يعتنق الماركسية، وسافر إلى الاتحاد السوفياتي عام 1959 وتقدم بطلب للحصول على الجنسية دون أن ينجح، فعاش هناك إلى 1962، لكن تقرير مجلس النواب الشهير في 1979 رجح أنه من المحتمل أن يكون مسلحان أطلقا النار على كينيدي وأنه اغتيل إثر مؤامرة، ولذلك طالب المجلس وقتها بإعادة فتح التحقيق.
جون كينيدي 2 .jpg
19 في المئة من الأميركيين “غير متأكدين” من كون جريمة اغتيال كينيدي مؤامرة كبيرة (أ ب)
نسخة وارن
أما نسخة (وارن) الحكومية عن التحقيق فأكدت كون أوزوالد ذئباً منفرداً، وأنه أطلق الرصاصة التي سميت فيما بعد بالرصاصة السحرية، كونها خرقت كل قواعد المقذوفات، والتي فندها تسجيل واقعي قصير جداً، ظهر بعد ذلك لأبراهام زابرودر الذي رصد خلال التسجيل مشهد الاغتيال صدفة، وبثه من خلال الفيديو المنزلي، الذي أظهر بكل وضوح ارتداد رأس الرئيس للخلف، فيما ظهرت تسجيلات أخرى لاحقاً تحدثت عن ثلاث رصاصات، ثم ارتفعت الحصيلة أخيراً لتؤيد وجود أربع عمليات إطلاق رصاص، وذلك بعد أن أدلى بول لانديس بشهادته عقب عقود من الصمت المريب.
صمت
بدوره قتل جندي صغير في المافيا المحلية أوزوالد بعد يومين من الاعتقال. وكان رجل المافيا هذا بمثابة المتهم الوحيد الذي ضبطته الشرطة عقب الاغتيال، ولكنه بقي في السجن صامتاً حتى موته بالسرطان بعد سنوات قليلة، فيما أظهرت التحقيقات لاحقاً أن المشتبه في كونهم يريدون “رأس كينيدي” كثر، وأهمهم المافيا والشيوعيون والمجمع الصناعي العسكري الأميركي الفاسد ووكالة الاستخبارات المركزية وليندن جونسون نائب الرئيس وخليفته، أو كل منهم، لذلك وصفت وسائل إعلام اغتيال كينيدي بكونه انتصاراً مؤسفاً لقوى شريرة متآمرة، آمنت بفكرة أن الأمن وازدهار الشعوب لا يتحققان إلا من خلال خوض الحروب الطاحنة.