رامي الريسكاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
كشفت الحرب الإسرائيليّة على غزة بحجمها واتساعها وكثافتها أنها تتجاوز بشكل تام مجرد الرد على الاختراق الكبير الذي وقع في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إذ إن مسار الأحداث يشي بأنها بمثابة تنفيذ لمخططات سابقة أعادت إسرائيل إنعاشها، لعل في مقدّمها مشروع «الترانسفير» القديم – الجديد، أي إبعاد الفلسطينيين، لا بل طردهم، إلى خارج أراضي فلسطين التاريخيّة في محاولة واضحة ومكشوفة لتغيير الواقع الديمغرافي والميداني على الأرض.
لم يكترث الاحتلال الإسرائيلي كثيراً لمحاولة إخفاء هذه السياسة، أو لتخبئة سعيه الحثيث لاستثمار المناخ الدولي المؤيد له عقب عمليّة «طوفان الأقصى»، وقد صوّر نفسه أنه في صدد «الدفاع عن النفس»، مع أنه من غير المنطقي أن يكون من يحتل الأرض يدافع عن نفسه إزاء المقاومات التي تسعى إلى تحرير الأرض.
مع أن مجريات العمليّة العسكريّة التي شهدها ويشهدها قطاع غزة منذ شهرين تقريباً تؤكد هذا المسار، خصوصاً مع الإصرار على عدم إبقاء أي بقعة جغرافيّة آمنة في كل أرجاء قطاع غزة، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمراكز التابعة لمنظمات الأمم المتحدة، بذريعة وجود أنفاق تحتها تُستخدم لأغراض عسكريّة، والمطلوب دفع الغزيين إلى خارج حدود القطاع.
ولم تكن الدعوات الإسرائيليّة لتطبيق هذا المخطط القديم – الجديد سريّة أو تُرسل عبر قنوات سياسيّة أو دبلوماسيّة للأطراف أو الجهات المعنيّة، بل كانت تتكرر على ألسنة العديد من المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين الإسرائيليين في وسائل الإعلام، وتواكبها طائرات القصف المركز ودبابات «الميركافا» على الأرض.
وعكست بعض الصور والشرائط المصوّرة الآتية من قطاع غزة مشهداً يماثل صور نكبة 1948 عندما كان الخروج «المؤقت» للفلسطينيين بمثابة خروج شبه نهائي لم تكتمل ظروف عودته لغاية اليوم. إنها المشاهد التي لا تزال عالقة في الوجدان الشعبي الفلسطيني، والتي لا يمكن القبول بتكرارها عبر اقتراح «بدائل» عن الوطن الفلسطيني، تارة في سيناء، وطوراً في الأردن، وسوى ذلك من المقترحات التي يرفضها الفلسطينيون تماماً كما ترفضها الدول المحيطة المعنيّة بها.
وتعود فكرة «الترانسفير» منذ أواسط الثلاثينات في القرن الماضي إلى الوكالة اليهوديّة، وقد تبنّاها ديفيد بن غوريون الذي عدَّ أن تحقيقها ممكن من خلال الحرب والأعمال الأمنيّة أكثر منه في فترات الهدوء والاستقرار. بمعنى آخر، اعتماد سياسة تخويف الفلسطينيين من خلال القتل والتدمير لإزاحتهم من المكان الجغرافي ومن ثم إحلال السيطرة الإسرائيلية مكانه.
وفي سياق العودة إلى قراءة الأحداث التاريخيّة يبرز كيف أن إسرائيل تدرجت في تطبيق سياسة الطرد إما بشكل مباشر أم من خلال التوسع الاستيطاني في كل أنحاء فلسطين، بما في ذلك مناطق الضفة الغربيّة (المفترض أنها تُشكّل أساس الدولة الفلسطينيّة المرتجاة في مشروع حل الدولتين) أي بإحلال مستوطنين جدد قدموا من دول مختلفة حول العالم ولا علاقة مباشرة لهم بأرض فلسطين، ليقطنوا في بيوت ومساكن وأرزاق السكان الأصليين، أي الفلسطينيين.
كما أن التعنّت الإسرائيلي في اتفاقيّة أوسلو (1993) في البت مسبقاً بالقضايا الكبرى مثل القدس واللاجئين والحدود وسواها من الملفات المركزيّة ليس سوى متابعة لاستراتيجيّة قديمة للذهاب يوماً ما نحو مشروع «إسرائيل الكبرى» الذي لم يسقط يوماً من الحسابات الإسرائيليّة، خصوصاً بعد حرب عام 1967 عندما وسعت إسرائيل سيطرتها على الأراضي العربيّة في الجولان والضفة الغربيّة وغزة وسيناء.
إن التهجير القسري للسكان وحروب الإبادة التي تُرتكب بحقهم هي جرائم يُعاقب عليها القانون الدولي. صحيحٌ أن كل مفهوم الشرعيّة الدوليّة بات يحتاج إلى إعادة تعريف على ضوء الإخفاق الكبير في وقف الحرب على غزة بعد سقوط نحو 18 ألف شهيد في الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة؛ إلا أن ذلك لا يلغي المطالبة بتطبيق أحكام القانون الدولي ومحاكمة إسرائيل لوقف هذا المسلسل الدموي الذي لم يتوقف منذ ما قبل عام 1948.
لقد سقطت فكرة الإنسانيّة برمتها إزاء المشاهد الدموية في فلسطين، إذ يشهد العالم السقوط اليومي للمدنيين الأبرياء، ومن بينهم آلاف الأطفال الذين فقدوا حياتهم من دون أن يرتكبوا أي ذنب، ناهيك عن الآلاف من الأطفال الذين تيتموا وفقدوا ذويهم في هذه الحرب. ثمة دروس لا بد من استخلاصها إذا كان من الضروري إنقاذ فكرة الإنسانيّة.