منذ فجر التاريخ، ظل اليمن رقماً صعباً في معادلات القوة الإقليمية والدولية. في موقعه الاستراتيجي على مضيق باب المندب، وبتاريخه الممتد إلى آلاف السنين، لم يكن يوماً مجرد ساحة نفوذ يمكن اقتحامها بسهولة أو إخضاعها بالقوة.
من الرومان إلى العثمانيين.. دروس النكسة
في القرن الأول الميلادي، حاول الرومان بقيادة إيليوس غالوس غزو اليمن ضمن توسع الإمبراطورية، لكن حملته فشلت فشلاً ذريعاً بسبب الطبيعة الوعرة، والبيئة القاسية، وغياب الحلفاء المحليين. وحتى الإمبراطورية العثمانية، على قوتها وهيمنتها في القرن السادس عشر، فشلت في فرض سيطرة مستقرة على البلاد، واضطرت إلى الانسحاب مراراً بعد أن كبدتها المقاومة اليمنية خسائر بشرية ومادية فادحة.
أما الاحتلال البريطاني، رغم امتداده لقرن وربع في جنوب اليمن (1839–1967)، فلم ينجُ هو الآخر من مقاومة مستمرة أجبرت لندن على الاعتراف في النهاية بأن الجنوب لا يمكن حكمه بالقوة وحدها، ليتم إعلان الاستقلال وتأسيس الجمهورية في 1967.
النكسة المصرية في اليمن: حين ابتلعت الرمال الحلم القومي
حتى الزعيم العربي الأبرز في القرن العشرين، جمال عبد الناصر، الذي تمتع بشعبية غير مسبوقة في الشارع العربي، اصطدم بجدار اليمن الصلب. فبعد قيام ثورة 1962 ضد الحكم الإمامي، تدخلت مصر دعماً للجمهوريين وأرسلت ما يُقدّر بـ70 ألف جندي. كان ناصر يرى في اليمن فرصة لنشر المشروع القومي العربي، لكن الحرب تحولت إلى مستنقع دموي.
المؤرخون، مثل باتريك سيل، يصفون التدخل المصري في اليمن بأنه “فيتنام عبد الناصر”، نظراً للخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش المصري بفعل حرب العصابات، والبيئة الجبلية المعقدة، وعدم وجود حاضنة محلية موحدة. وفي نهاية المطاف، اضطرت مصر إلى الانسحاب بعد ست سنوات من القتال، مثقلة بجراح بشرية ومعنوية، ما مهّد جزئياً لهزيمة 1967 أمام إسرائيل، حسب ما وثّقه محمد حسنين هيكل.
التحالف العربي وحرب الاستنزاف
تكررت الحكاية نفسها بعد أكثر من نصف قرن. في 2015، أطلق التحالف العربي بقيادة السعودية ما سُمي بـ”عاصفة الحزم”، استناداً إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2216، بحجة إعادة الشرعية ومواجهة الحوثيين المدعومين من إيران. ورغم التفوق الجوي والاستخباراتي والدعم اللوجستي الغربي، لم تنجح العمليات في تحقيق نصر حاسم.
وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، أدت الحرب إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، دون أن تقود إلى إعادة توحيد البلاد أو إنهاء سيطرة الحوثيين على صنعاء. ويقدّر مركز “مجموعة الأزمات الدولية” (ICG) أن الصراع تحوّل إلى حالة جمود استراتيجي، لا تُسفر عن نصر ولا هزيمة، بل عن استنزاف مفتوح للطرفين.
الجغرافيا المعقدة والولاءات المتغيرة
ما فشل فيه الرومان والعثمانيون، وتعثرت فيه مصر الناصرية، تكرر في العصر الحديث. فالجغرافيا الوعرة، خاصة في الشمال، شكلت حصناً طبيعياً للمقاتلين. إضافة إلى ذلك، فإن الانقسامات القبلية والطائفية تحولت من عائق إلى أداة بيد القوى المحلية، مما جعل إدارة النزاع أكثر تعقيداً. فلم يعد الصراع بين طرفين، بل بين فسيفساء من الفاعلين: الحوثيين، الحكومة الشرعية، المجلس الانتقالي، الجماعات السلفية، القاعدة، وقوى قبلية مدعومة من الخارج.
اليمن لا يُحتل، بل يُحتوى
تاريخ اليمن يقول بوضوح: لا أحد دخل هذه البلاد بسلاحه وخرج منتصراً. القبول به شريكاً يعزز الاستقرار، بينما محاولة إخضاعه لا تؤدي سوى إلى تفكك إضافي في المنطقة. وكما قال الباحث البريطاني بول درايدن: “اليمن يبلع خصومه ببطء، ثم يرفضهم عند أول فرصة.”
ربما آن الأوان لفهم الحقيقة التي غفل عنها الكثيرون: اليمن ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل دولة إذا أُهملت تحترق، وإذا أُكرهت تنفجر، وإذا تم احتوائها سياسيا تصنع الفرق .
منذ فجر التاريخ، ظل اليمن رقماً صعباً في معادلات القوة الإقليمية والدولية. في موقعه الاستراتيجي على مضيق باب المندب، وبتاريخه الممتد إلى آلاف السنين، لم يكن يوماً مجرد ساحة نفوذ يمكن اقتحامها بسهولة أو إخضاعها بالقوة.
من الرومان إلى العثمانيين.. دروس النكسة
في القرن الأول الميلادي، حاول الرومان بقيادة إيليوس غالوس غزو اليمن ضمن توسع الإمبراطورية، لكن حملته فشلت فشلاً ذريعاً بسبب الطبيعة الوعرة، والبيئة القاسية، وغياب الحلفاء المحليين. وحتى الإمبراطورية العثمانية، على قوتها وهيمنتها في القرن السادس عشر، فشلت في فرض سيطرة مستقرة على البلاد، واضطرت إلى الانسحاب مراراً بعد أن كبدتها المقاومة اليمنية خسائر بشرية ومادية فادحة.
أما الاحتلال البريطاني، رغم امتداده لقرن وربع في جنوب اليمن 1898 – 1968 فلم ينجُ هو الآخر من مقاومة مستمرة أجبرت لندن على الاعتراف في النهاية بأن الجنوب لا يمكن حكمه بالقوة وحدها، ليتم إعلان الاستقلال وتأسيس الجمهورية في 1967.
النكسة المصرية في اليمن: حين ابتلعت الرمال الحلم القومي
حتى الزعيم العربي الأبرز في القرن العشرين، جمال عبد الناصر، الذي تمتع بشعبية غير مسبوقة في الشارع العربي، اصطدم بجدار اليمن الصلب. فبعد قيام ثورة 1962 ضد الحكم الإمامي، تدخلت مصر دعماً للجمهوريين وأرسلت ما يُقدّر بـ70 ألف جندي. كان ناصر يرى في اليمن فرصة لنشر المشروع القومي العربي، لكن الحرب تحولت إلى مستنقع دموي.
المؤرخون، مثل باتريك سيل، يصفون التدخل المصري في اليمن بأنه “فيتنام عبد الناصر”، نظراً للخسائر الفادحة التي تكبدها الجيش المصري بفعل حرب العصابات، والبيئة الجبلية المعقدة، وعدم وجود حاضنة محلية موحدة. وفي نهاية المطاف، اضطرت مصر إلى الانسحاب بعد ست سنوات من القتال، مثقلة بجراح بشرية ومعنوية، ما مهّد جزئياً لهزيمة 1967 أمام إسرائيل، حسب ما وثّقه محمد حسنين هيكل.
التحالف العربي وحرب الاستنزاف
تكررت الحكاية نفسها بعد أكثر من نصف قرن. في 2015، أطلق التحالف العربي بقيادة السعودية ما سُمي بـ”عاصفة الحزم”، استناداً إلى قرار مجلس الأمن الدولي 2216، بحجة إعادة الشرعية ومواجهة الحوثيين المدعومين من إيران. ورغم التفوق الجوي والاستخباراتي والدعم اللوجستي الغربي، لم تنجح العمليات في تحقيق نصر حاسم.
وفقاً لتقارير الأمم المتحدة، أدت الحرب إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، دون أن تقود إلى إعادة توحيد البلاد أو إنهاء سيطرة الحوثيين على صنعاء. ويقدّر مركز “مجموعة الأزمات الدولية” (ICG) أن الصراع تحوّل إلى حالة جمود استراتيجي، لا تُسفر عن نصر ولا هزيمة، بل عن استنزاف مفتوح للطرفين.
الجغرافيا المعقدة والولاءات المتغيرة
ما فشل فيه الرومان والعثمانيون، وتعثرت فيه مصر الناصرية، تكرر في العصر الحديث. فالجغرافيا الوعرة، خاصة في الشمال، شكلت حصناً طبيعياً للمقاتلين. إضافة إلى ذلك، فإن الانقسامات القبلية والطائفية تحولت من عائق إلى أداة بيد القوى المحلية، مما جعل إدارة النزاع أكثر تعقيداً. فلم يعد الصراع بين طرفين، بل بين فسيفساء من الفاعلين: الحوثيين، الحكومة الشرعية، المجلس الانتقالي، الجماعات السلفية، القاعدة، وقوى قبلية مدعومة من الخارج.
اليمن لا يُحتل، بل يُحتوى
تاريخ اليمن يقول بوضوح: لا أحد دخل هذه البلاد بسلاحه وخرج منتصراً. القبول به شريكاً يعزز الاستقرار، بينما محاولة إخضاعه لا تؤدي سوى إلى تفكك إضافي في المنطقة. وكما قال الباحث البريطاني بول درايدن: “اليمن يبلع خصومه ببطء، ثم يرفضهم عند أول فرصة.”
ربما آن الأوان لفهم الحقيقة التي غفل عنها الكثيرون: اليمن ليس ساحة لتصفية الحسابات، بل دولة إذا أُهملت تحترق، وإذا أُكرهت تنفجر، وإذا تم احتوائها سياسيا تصنع الفرق .