ترفض فرنسا الاعتذار عن جرائمها في إفريقيا
عُرف عن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اهتمامه الكبير بملفات الذاكرة التي تربط بلاده بعدة دول إفريقية سبق أن استعمرتها فرنسا.
وقد ظهر ذلك حتى قبل وصوله إلى قصر الإليزيه وتقلده منصب الرئاسة، فقد اختار سياسة الاعتراف وعدم إنكار مسؤولية باريس في عديد الجرائم المرتكبة في القارة السمراء، لكن دون اعتذار أو تقديم تعويض للشعوب المنتهكة.
سياسةٌ يسعى ماكرون من خلالها تدوين اسمه وربطه بغلق ملف الذاكرة، خاصة أنه لا يأمن الفوز بولاية رئاسية جديدة في ظل فشله في كل المستويات، لكن هل يمكن أن يغلق هذا الملف حقًّا دون تقديم اعتذار و تعويض شعوب تلك الدول المضطهدة إلى الآن؟
من الجزائر لرواندا.. اعتراف بالمسؤولية
اعترف أخيرًا الرئيس الفرنسي من العاصمة الرواندية كيغالي بمسؤولية بلاده عن الإبادة الجماعية التي حدثت في هذا البلد الإفريقي في تسعينيات القرن الماضي، وراح ضحيتها أكثر من 800 ألف شخص خلال 3 أشهر، إذ قال في خطاب له ألقاه أمس عند النصب التذكاري لضحايا الإبادة: “جئت للاعتراف بمسؤوليتنا” بشأن المجازر التي ارتكبت في هذا البلد عام 1994 بحق إثنية التوتسي، طالبًا الصفح والمغفرة.
أضاف ماكرون أن فرنسا “لم تكن متواطئة” لكنها لم تستجب للتحذيرات من وقوع مذبحة وشيكة، ولفترة طويلة “فضلت الصمت على تقصي الحقيقة”.
وقال الرئيس الفرنسي أمام النصب التذكاري الذي دُفن فيه أكثر من 250 ألف ضحية: “فقط أولئك الذين عانوا في تلك الليلة يمكنهم أن يصفحوا، وبقيامهم بذلك يمنحون هدية التسامح (..) أنا هنا بكل تواضع وباحترام أقف بجانبكم اليوم، وأعترف بمدى مسؤولياتنا”.
وقال أيضًا إن “القتلة الذين كانوا يسكنون المستنقعات والتلال والكنائس لا يمثلون فرنسا، الدماء التي أريقت لم تكن عارًا على أسلحة ولا أيدي جنودها الذين شاهدوا هم أيضًا بعيونهم الفظائع التي لا توصف، وضمدوا الجروح وكبتوا دموعهم”.
هذه الخطوات الرمزية التي أقدم عليها ماكرون فيما يتعلق بماضي بلاده الاستعماري في بعض الدول الإفريقية، لا تأتي من فراغ.
أضاف أنه “في اليوم التالي، بعدما وجد مسؤولون فرنسيون الوضوح والشجاعة لتوصيف ما جرى بالإبادة، لم تحسن فرنسا استخلاص النتائج المناسبة”، ورأى أن فرنسا “عليها واجب هو النظر إلى التاريخ من دون مواربة، والإقرار بمساهمتها في المعاناة التي لحقت بالشعب الرواندي، إذ فضّلت لزمن طويل الصمت على النظر إلى الحقيقة”.
ويأتي هذا الاعتراف بعدما أصدرت لجنة تحقيق فرنسية تقريرًا في مارس/ آذار قالت فيه إن موقفًا استعماريًّا أعمى المسؤولين الفرنسيين، وإن الحكومة تتحمل مسؤولية “كبرى وجسيمة” لعدم توقع المذبحة.
وخلص تقرير وضعه مؤرخون إلى “المسؤوليات الجسيمة والمروعة” لفرنسا، و”تغاضي” الرئيس الاشتراكي حينذاك فرانسوا ميتران ومحيطه عن جنوح حكومة الهوتو المدعومة آنذاك من باريس إلى العنصرية والإبادة الجماعية.
جاءت قبل هذا الاعتراف اعترافات كثيرة بشأن بعض ما حدث من جرائم في الجزائر خلال الفترة الطويلة التي استعمرت فيها من قبل الفرنسيين، حيث وعد ماكرون باتخاذ “خطوات رمزية” لتجاوز ذكريات الاستعمار.
شكّل ماكرون لجنة برئاسة المؤرخ بنيامين ستورا بشأن ما أنجزته فرنسا حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر، التي وضعت أوزارها عام 1962. لجنة رفعت بعد عمل طويل تقريرًا عن “مصالحة الذاكرة” إلى الرئيس الفرنسي في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي أوصى بإرسال مبادرات تهدئة.
عقب ذلك أعلن قصر الإليزيه أن الرئيس الفرنسي ماكرون اعترف بأن المحامي والزعيم الوطني الجزائري علي بومنجل “تعرّض للتعذيب والقتل” على أيدي الجيش الفرنسي قبل 64 سنة، متراجعًا بذلك عن الرواية الفرنسية بأنه انتحر، كما استقبل أحفاد بومنجل لتصحيح هذا الخطأ.
وقالت الرئاسة الفرنسية -في بيان- إن بومنجل “اعتقله الجيش الفرنسي في خضم معركة الجزائر، ووُضع في الحبس الانفرادي وتعرّض للتعذيب، ثم قُتل في 23 مارس/ آذار 1957”.
ووفقًا للبيان فإن ماكرون استقبل في قصر الإليزيه 4 من أحفاد علي بومنجل ليخبرهم -باسم فرنسا- بما كانت أرملة الراحل مليكة بومنجل تود أن تسمعه، وهو أن “علي بومنجل لم ينتحر، بل تعرّض للتعذيب ثم قُتل”.
ووفق عدة مؤرخين، فإن فرقة من المظليين (قوة استعمارية أرسلتها باريس آنذاك للقضاء على الثورة التحررية الجزائرية) ألقت القبض على بومنجل في فبراير/ شباط 1957، في أحد أحياء العاصمة الجزائر، قبل أن تعذبه 43 يومًا، لتعلن بعدها وفاته في 23 مارس/ آذار من السنة نفسها، وقال الاستعمار حينها إن بومنجل انتحر.
كما قررت فرنسا مؤخرًا تسهيل الوصول إلى محتويات الأرشيف السري التي يزيد عمرها عن 50 عامًا، خصوصًا تلك المتعلقة بالحرب الجزائرية، عملًا بما أوصى به المؤرخ بنيامين ستورا، الأمر الذي رحبت به السلطات الجزائرية.
قبل ذلك، سلّمت باريس رفات 24 من قادة المقاومة الجزائرية، الذين سقطوا في بداية الاستعمار الفرنسي للبلاد، واعتبرت الجزائر هذه المبادرة الفرنسية خطوة أولية باتجاه استعادة كل ما له علاقة بالذاكرة الجزائرية.
كما سبق لماكرون سنة 2018، أن اعترف وتجرأ على قول ما لم يقله سابقيه في قصر الإليزيه، إذ أقرّ خلال زيارة منزل الشيوعي الفرنسي موريس أودان الذي قُتل سنة 1957، بأن بلاده مارست التعذيب خلال سنوات الحرب في الجزائر.
بحث عن نصر زائف
هذه الخطوات الرمزية التي أقدم عليها ماكرون فيما يتعلق بماضي بلاده الاستعماري في بعض الدول الإفريقية، لا تأتي من فراغ، فالرجل يسعى لأمر شخصي من ورائها إلى جانب الاستجابة لبعض مطالب قادة وشعوب تلك الدول.
يعتمد ماكرون في ذلك أنه من جيل مختلف وأنه رئيس ولدَ بعد انتهاء الاستعمار الفرنسي لإفريقيا، على عكس باقي الرؤساء الآخرين، أي أنه يحمل رؤية مختلفة ونظرة جديدة لماضي بلاده الاستعماري الذي تسبب في أوجاع كبرى للأفارقة.
ترفض فرنسا الاعتذار عن جرائمها في إفريقيا لأن ذلك سيفتح باب طلب التعويضات على مصراعيه.
يسعى إيمانويل ماكرون من خلال هذه الخطوات إلى كتابة شيء ما في التاريخ وتدوين اسمه وربطه بغلق ملف الذاكرة، ذلك أن هذا الملف بقي لعدة عقود عقبة أمام تطوير العلاقات الفرنسية مع عدة دول إفريقية.
يعمل ماكرون على هذا الأمر، خاصة أنه لا يأمن الفوز بولاية رئاسية جديدة في ظل فشله في كل المستويات، فقد أصبح ماكرون وفق عديد الفرنسيين وبالًا عليهم، فالمشاكل التي تسبب فيها لفرنسا داخليًّا وخارجيًّا لا تعدّ ولا تحصى.
ففي عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، فقدت فرنسا أي تأثير دولي لها رغم أنه يحاول تصوير عكس ذلك أثناء اللقاءات الدولية، أما في الداخل فالبلاد تعيش أحلك أيامها سواء في الجانب الاقتصادي أو الاجتماعي وفي مجال الحريات أيضًا.
الاعتذار والتعويض أولًا
صحيح أن ماكرون والدولة الفرنسية اعترفا بمسؤوليتهما في بعض الجرائم التي ارتكبت في رواندا والجزائر، بهدف غلق هذا الملف نهائيًّا والنظر في كيفية تطوير العلاقات الفرنسية مع مستعمراتها الإفريقية السابقة، لكن السؤال المطروح الآن هل يمكن أن يُغلق هذا الملف حقًّا دون تقديم اعتذار وتعويض شعوب تلك الدول إلى الآن؟
حسم هذا الموضوع الشائك لا يأتي من قبل فرنسا فقط، تفتحه وقت تريد وتغلقه وقت تريد، فالدول التي مورست ضدها وضد شعبها الجرائم والانتهاكات معنية أيضًا بهذا الملف المهم، ولها كلمتها في كيفية غلقه، ولعلها الكلمة الأبرز أيضًا.
ولو أن الرئيس الرواندي بول كاغامي رحّب بالخطوة الفرنسية، وقال تعليقًا على تصريحات الرئيس الفرنسي: “خطاب أهم من اعتذار”، فإن الشعب الرواندي وخاصة أهالي الضحايا لم يقبلوا مجرد تحمل المسؤولية، فهم يطالبون بالاعتذار أولًا ثم التعويض لهم.
مثّلت مسألة دور فرنسا قبل وخلال الإبادة الجماعية في رواندا نقطة خلاف استمر سنوات، وأدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين باريس وكيغالي من عام 2006 إلى عام 2009، وكانت آخر زيارة قام بها رئيس فرنسي إلى رواندا في عام 2010.
الجزائريون أيضًا لم يقبلوا بالاعتراف وتحمل مسؤولية بعض الجرائم فقط، فهم يريدون اعتذار فرنسا عن جرائمها في بلادهم والتعويض لهم.
يذكر أن فرنسا استعمرت الجزائر منذ عام 1830 وحتى عام 1962 عندما نالت استقلالها، بعد حرب تحرير استمرت 8 سنوات لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين حتى اليوم.
ترفض فرنسا الاعتذار عن جرائمها في إفريقيا لأنها تخشى أن يفتح ذلك باب طلب التعويضات على مصراعيه، كما سيسقط عن البلدان الإفريقية فرض دفع التعويضات، مما تدعي فرنسا أنه بنية تحتية تركتها في إفريقيا، في حين أنها بنيت بوسائل وسواعد الأفارقة.