ليس جوهر القضية أن مستودعا كبيرا يضم أجهزة وصناديق الاقتراع العراقي قد تم إحراقه بفعل فاعل، وأن الفاعل لديه أسباب كافية لخوض مثل هذه المجازفة، كأن يكون متورطا في التزوير، أو راغبا بالمزيد من خلط الأوراق، بل إن جوهرها أن القوى الإقليمية ما زالت ترى أن بإمكانها استخدام ورقة التهديد بإحراق ما تبقى من العراق.
عام 2009 وقف الفاعل الإقليمي على تلة الحرب الأهلية وقال :»إنها حرب مذهبية غير مكتملة» وعام 2017 وقف مرة أخرى على تلة الاستفتاء الكردي وهتف: «إنها حرب قومية غير مكتملة»، ونكاد نلمحه اليوم وهو يقف على تلة حريق مخازن الأصوات عازما على القول «إنها حرب شيعية– شيعية غير مكتملة».
وفيما أننا لا نعرف حقا متى تكتمل دائرة حروبنا المغلقة بعد أن استنزفت دماء العراقيين ونفطهم ومياههم ومستقبل أجيال متتابعة منهم، فإننا نعرف عن يقين أن القوى السياسية العراقية، ما زالت عاجزة ومتقزمة أمام الخارج، وأنها لا تقوى بل لا تريد تحمل مسؤولية إنتاج قرار عراقي خالص يحمي البلاد من التلاعب والمغامرات والحرائق الجديدة.
ولنضع الأمور في نصابها، فإن طريقة تشكيل الحكومة التي ستنتج من انتخابات عام 2018 هي مبرر حريق الرصافة لا التزوير، وأن رسالة الحريق، قد تكون أقل الرسائل دموية، لكنها تضع في السياق مسار الصراع الإقليمي خلال الأعوام المقبلة، وتهدد بحرائق أكبر.
لم يقل أحد أن التمسك بحكومة مستقلة تقودها الكفاءات، تنتج قرارا عراقيا، وتدير لعبة التوازنات الإقليمية والدولية بحرفية ووعي للمصالح الوطنية، لن يكون بلا تضحيات، وبلا تحديات، ولم يفترض أحد أن المضي إلى تجاوز المحاصصة الحزبية، وقسمة أمراء الطوائف، ستكون مهمة بلا عوائق وتهديدات، لكن «داعش» كان حريقا بفاعل إقليمي ودولي أيضا، ومع هذا خرج العراقيون من حفرتهم يطالبون بالمدنية والحريات والقرار الوطني والانفتاح على الخارج، متجاوزين بذلك أكثر كوابيسهم رعبا.
الفاعل، يخطئ في حساباته دائما، فليس ثمة جريمة كاملة على صعيد مصير الشعوب، وربما أغرته المكاسب التي حصل عليها خلال سنوات التيه التي سقط فيها العراق، متناسيا الخسائر الاستراتيجية التي ألمت به، ولأنه أخطأ مرارا، فهو يخطئ هذه المرة أيضا، عندما يعتقد أن حكومة بمقاييسه يمكن أن ترى النور، أو أن تعيش لفترة طويلة أمام الإرادة الشعبية.
لا يريد الفاعل أن يتعب نفسه ليكتشف أجيالا عراقية تنمو وتزدهر محملة بروح وطنية متجددة، وكراهية لكل ما تورطت به الأجيال التي سبقت، فهو ما زال مؤمنا أن إدارة العراق ستتم بطريقة واحدة، وأن مزاج الشعب يمكن التلاعب عليه بتبديل الوجوه أو تحوير الشعارات أو حتى التهديد بالحرائق.
لا يفهم الفاعل أن نادي السياسيين الفاسدين المرتجفين أمام نياشينه، لم يعد بإمكانه المقاومة طويلا، وأن جيلا صاعدا قد أدرك جيدا وسط تجارب مريرة وخداع طويل وتشويش مستمر على كل صوت وطني، أن المستقبل الوحيد المتاح هو التمسك بالدولة والدفاع عن وجودها وتقوية أسسها، ومنع انحلالها في أحضان الآخرين.
الحكومة التي ستنتج مستسلمة للتهديد بإحراق العراق من جديد، لن تكون سوى رقم تكميلي لما سبقها، ضعيفة ومهزوزة ومرتبكة، أمام مسار شعبي واضح ومتصاعد يفرض نفسه باضطراد ويكتسب المصداقية والحضور، مطالبا بإيقاف مهرجان الفشل والعجز والتردي.
ليس الغضب الشعبي بلا أخطاء وأخطار، بل إن المشكلة هي أخطار هذا الغضب، لو تغاضى الفاعل عنه، واستهتر بجديته، أو حاول الاستثمار فيه. تلك لعبة أكثر خطورة من سواها، وحريق أشد رعبا من غيره، ومساحته لن تكتفي بحدود أرض الرافدين بل تتعداها.
أن تكون مهمة العراقيين أن يقنعوا الآخرين بخطورة العبث بحرائقهم، تلك مهمة شديدة الصعوبة، خصوصا عندما يدفع الغرور ووهم كلية القدرة الآخر إلى بناء نظريات بدائية عن تعريف القوة والضعف، فيقرر أن يتحدى إرادة شعب.