لم يعد رسم السياسة الخارجية للدول مقتصرًا على الساسة والحكومات فقط، بل بات دور الشركات في هذه اللعبة يتعاظم بشكل كبير في العقود الأخيرة، وفي القلب من هذه الشركات: شركات النفط، إذ يُعتبر قطاع الطاقة أكثر القطاعات الاقتصادية فعالية في ممارسة النفوذ السياسي، وخلال هذا التقرير سنناقش ملامح هذا الدور التي تلعبه الشركات، من خلال الحديث عن كلّ من: روسنفت الروسية، وإيني الإيطالية، وتوتال الفرنسية.
1- روسنفت.. «الأداة السياسيّة» المفضّلة لدى الكرملين
شركة روسنفت تُعد واحدة من قادة صناعة النفط والغاز العالمية، إذ تستحوذ على 6% من إنتاج العالم من النفط الخام، وتبلغ قيمتها نحو 65 مليار دولار، وعند الحديث عن هذه الشركة، فلا بد علينا أن نتحدث عن إيجور سيتشن، رئيس شركة روسنفت الذي يعدّ من أقرب حلفاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك للإجابة عن سؤال: كيف تعمل روسنفت سفيرًا سياسيًّا لروسيا وليس بوصفها شركة تجارية فقط؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإيجور سيتشن، رئيس شركة روسنفت
وُلد سيتشن في سان بطرسبرج، وعمل في الثمانينيات مترجمًا عسكريًّا في موزمبيق وأنجولا، بينما تعرّف عليه بوتين في التسعينيات في سان بطرسبرج، واصطحبه معه إلى موسكو حيث بزغ نجمه، إذ عمل على تأميم قطاع كبير من صناعة النفط الروسية، وعُين في 2012 رئيسًا تنفيذيًّا لعملاق النفط الروسي «روسنفت».
ولعل الحديث عن سيتشن قد يلخّص فكرة الارتباط السياسي بين روسنفت وبوتين، فالرجل صاحب النفوذ الداخلي القوي في روسيا يجعل الكثيرين يخافون من مواجهته، فغالبًا كانت نهاية خصومه غير جيدة، وبحسب مسؤول كبير في الكرملين فإنّه رجل متهوّر للغاية، لكنه يبقى واحدًا من أكثر الأشخاص ثقة في حل المشاكل التي يواجهها بوتين، ويوصف بأنه مخلص تمامًا له.
عمومًا منذ أن تولّى سيتشن إدارة روسنفت؛ تعاظم الدور السياسي للشركة بشكل كبير، فبالرغم من مهمّتها الرئيسية في تحقيق الأرباح؛ إلا أنها تعمل باعتبارها كيانًا سياسيًا عند الضرورة، إذ يرى أموس هوشستاين، الذي عمل مبعوثًا خاصًّا للطاقة في إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، إن روسنفت تتبع الرئيس بوتين مباشرة، فحينما يريد إبرام صفقة سياسية، فإنها تفعل، إذ إن قطاع الطاقة فعال لممارسة النفوذ السياسي.
ويعتبر محلّلون أن سيتشن يتصرف باعتباره «وزيرًا ثانيًا للخارجية» وتعتمد عليه روسيا في كثير من المهام، ولعل أبرزها أو آخرها ما حدث في كلّ من العراق وفنزويلا والهند، ففي الدول الثلاث كانت هناك صفقات لا يمكن اعتبارها تجارية فقط، بل إن تعزيز نفوذ روسيا السياسي كان هدفًا واضحًا، إلا أن سيتشن في ردّه على سؤال عما إذا كان يعتبر نفسه رجل سياسة، وذلك خلال حديثه لصحيفة «فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج»، قال: «هذا سؤال صعب، أشعر دائمًا أنني عشت أكثر من حياة، أعتقد أن الكلمة المناسبة هي مُدير».
وحول الدور السياسي التي لعبته روسنفت في كردستان العراق، الذي ينطوي تنامي النفوذ الروسي بالإقليم على تحول جيوسياسيّ حاد، إذ ارتبط الإقليم بتحالف وثيق مع واشنطن منذ الإطاحة بصدام حسين إبان الغزو الذي قادته الولايات المتحدة في 2003، ولكن في ذروة الأزمة السياسية بمنطقة كردستان العراق عندما حاولت الانفصال عن بقية البلاد، وصل في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، خطاب إلى وزارة النفط العراقية في بغداد من سيتشن، منتقدًا عدم اهتمام العراق بعرض روسنفت حول تطوير حقول في الجنوب.
وهدّد في خطابه إنّه في ظل إحجام بغداد عن العمل مع روسنفت؛ فإن الشركة ستتعاون مع حكومة كردستان العراق التي أبدت اهتمامًا أكبر بالتوسع في التعاون الاستراتيجي، ويشير الخطاب إلى قوة وثقة كبيرة لدى سيتشن، من غير الطبيعي أن تكون موجودة في مثل هذه الصفقات التجارية إذا لم يكن وراءها خلفيّات سياسيّة. وجاء هذا الخطاب بعد أن أقرضت روسنفت الإقليم مئات الملايين من الدولارات بضمان مبيعات نفط في المستقبل، ومؤخرًا تملّكت الشركة خطوط أنابيب تصدير النفط إلى تركيا من حكومة كردستان مقابل 1.8 مليار دولار.
ويؤكد الخبراء أن هدف الصفقة ليس تجاريًا فقط، بل يأتي لتعزيز نفوذ روسيا السياسي في العراق والشرق الأوسط، إذ إن السيطرة على خطوط الأنابيب منحت روسنفت دورًا محوريًا في المحادثات الجارية بين حكومة كردستان وبغداد، الرامية لاستئناف صادرات النفط بالكامل، والتي تعطلت بسبب الاستفتاء والسيطرة العراقية، وتكمن أهمية إقليم كردستان في أنه يمتلك احتياطيات نفطية ضخمة، قد تكوّن ثلث إجمالي احتياطات العراق، وصادراته حيوية للاقتصاد المحلي والعراق ككل.
على الجانب الآخر، قدّمت روسنفت قروضًا لفنزويلا بنحو 6 مليارات دولار لدعم الحكومة، وقد ينتهي المطاف بتملك الشركة لمصافي تكسان المملوكة حاليًا لشركة النفط الوطنية كضمان للدين، ويرى محللون أن هذه القروض لم تخل من الأهداف السياسية، إذ تسعى روسيا لتحالف عسكري وسياسي واقتصادي مع فنزويلا لمواجهة العقوبات الأمريكية، ويبدو أنها قد نجحت إلى حدٍ كبير في هذا الاتجاه.
وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قالت روسنفت إن فنزويلا منحت الشركة تراخيص تطوير حقلين بحريين للغاز، وبموجب الاتفاق البالغة مدته 30 عامًا، ستصبح جروبو روسنفت المملوكة بالكامل لروسنفت هي المشغل لحقلي باتاو وميجلونيس البحريين للغاز، كما ستملك الحق في بيع جميع إنتاج الحقلين للتصدير، بما في ذلك بيع الإنتاج في صورة غاز طبيعي مسال، ويعد هذا الاتفاق هو الأول من نوعه في تاريخ فنزويلا، إذ يصل إجمالي احتياطات الحقلين إلى 180 مليار متر مكعب من الغاز.
وبنفس طريقة كردستان العراق وفنزويلا، اتّجهت روسنفت إلى الهند لتعزيز دورها في لعبة التوازنات بين روسيا والولايات المتحدة، إذ استثمرت الشركة في نهاية 2016 نحو 13 مليار دولار للاستحواذ على مصفاة «إيسار أويل»، وهو سعر اعتبره الكثيرون مبالغًا فيه لمجمع نفطي، لكن سعت الشركة للتغلب على عرض من «أرامكو» السعودية وتعزيز علاقات روسيا بحليف تقليدي للولايات المتحدة.
2-إيني.. ذراع إيطاليا في السياسة الخارجية والاستخباراتية
لا شك أن استغلال موسكو لروسنفت تزايد بشكل كبير في العقدين الأخيرين في ظل حكم بوتين، مقارنة بشركات الطاقة العالمية الأخرى، وفيما يخص شركة إيني الإيطالية، فيمكن تلخيص الحديث عنها من خلال تصريح رئيس الوزراء ماتيو رينزي، في عام 2014، واصفًا الشركة بأنها جزء جوهري في سياسة إيطاليا الخارجية والاستخباراتية، مضيفًا أن الرئيس التنفيذي لإيني «كلاوديو ديسكالزي» أكثر شهرة في دول العالم من أغلب وزراء إيطاليا.
تصريح رينزي يعكس ملامح الارتباط السياسي بين إيني وإيطاليا، وبحسب صحيفة نيويورك تايمز، فإن النفوذ الكبير لإيني في السياسة الخارجية يأتي نظرًا لاستثماراتها الضخمة التي تبلغ 58 مليار دولار في 73 دولة من دول العالم، وذلك في ظل أن إيطاليا واحدة من أضعف الدول الأوروبية في مجال الطاقة، وهو ما عزّز من مكانة وأهمية إيني. التقرير أشار إلى أن عددًا من الدبلوماسيين الإيطاليين يعتقدون أن شركة إيني لديها قوى مشتركة مع جهاز الاستخبارات الإيطالي.
ولعل أبرز الأدوار السياسية التي قامت بها الشركة كان في مصر خلال قضية مقتل الطالب الإيطاليّ ريجيني، فبحسب أندريا غريكو، وهو أحد مؤلفي كتاب «الدولة الموازية»، فإنه لدى إيني تاريخ طويل في توظيف الجواسيس الإيطاليين المتقاعدين بقسم الأمن الداخلي، مؤكدًا على أن الشركة قد تعاونت في قضية ريجيني، وبالرغم من انقطاع العلاقات المصرية الإيطالية؛ إلاّ أن ديسكالزي التقى بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عدة مرات خلال هذه الفترة، وهو ما يكشف الدور الفعال التي قامت به الشركة.
ويشير تقرير «نيويورك تايمز» إلى أن إيني رتبت مقابلة لصحيفة «لا ريبوبليكا» الإيطالية مع الرئيس السيسي بعد 6 أسابيع من وفاة ريجيني، أظهر خلالها تعاطفه مع والدي ريجيني، ووصف حادث وفاته بـ«المروعة وغير المقبولة»، كما تعهد بالوصول إلى حقيقة مقتله.
وبخلاف روسنفت التي تبحث عن نفوذ لها في الشرق الأوسط مؤخرًا، تعدّ إيني الموجودة في المنطقة منذ أكثر من 90 عامًا، وتعمل في عدة دول بالمنطقة، صاحبة نفوذ قوي، إلاّ أن لديها كذلك الكثير من المشاكل بسبب العلاقات غير الرسمية مع مسؤولي الدول. ففي الجزائر، طالب محقّقون إيطاليون بمحاكمة إيني وشركتها سايپام بتهمة دفع رشاوى ليفوزوا بعقود للتنقيب، إذ ذكرت وكالة «رويترز» أن الشركة دفعت 197 مليون يورو لوسطاء حكوميين لتعاقدات بـ8 مليار يورو مع شركة سوناطراك الجزائرية.
وكذلك تم التحقيق مع الشركة بسبب تلقي رشاوى بالكويت والعراق، وفي ليبيا، تحدّثت وسائل إعلام عن أن إيني قدمت مدفوعات غير شرعية لمسئوليين ليبيين، وفي تونس أيضًا، خرجت إيني من البلاد بعد الثورة على إثر شبهات فساد ورفض المجلس التأسيسي تمديد رخصتها، وذلك بعد مرور نحو 80 عامًا على عمل الشركة البلاد.
على كلٍ تكشف هذه الممارسات عن أن عالم الطاقة مليئ بالأسرار والعمليات الاستخباراتية السرية، فلم تعد هذه الشركات تعمل بهدف الربح وفقط، بل لا يخلو الأمر من الكثير من الألغاز والأهداف البعيدة التي تتداخل فيها السياسة والمال مع الصناعة النفطيّة، ولعل حادث مقتل إنريكو ماتي؛ الرئيس الأول لإيني على متن طائرة خاصة لم تكشف أسبابه الحقيقية حتى اليوم، أحد الألغاز الكبيرة في هذه العالم الغامض.
3-توتال.. طريق فرنسا لفتح الأبواب المغلقة
أنا قطري في قطر، إماراتي في الإمارات، إيراني في إيران، هذه هي فلسفتنا.
هكذا قال الرئيس التنفيذي لشركة توتال الفرنسية باتريك بويان، في يوليو (تموز) 2017، تعليقًا على الأزمة الخليجية، وهي إشارة إلى طريقة التعامل التي تنتهجها الشركة التي تعدّ ثالث أكثر الشركات التي تستخدمها بلدانها في سياستها الخارجية، بعد روسنفت وإيني. وبالرغم من أن توتال متواجدة في دولة قطر منذ عام 1936، ولديها استثمارات ضخمة في البلاد، ومن ناحية أخرى تعمل الشركة في الإمارات، ولها استثمارات ضخمة وتعد الأولى بين الشركات العالمية التي وقعت مع أبوظبي اتفاقًا مدته 40 عامًا في امتياز «أدكو» النفطي الذي يعتبر من بين الأكبر في المنطقة، ناهيك عن توتال التي كانت ضمن أوائل الشركات العالمية التي عادت إلى طهران من بعد الاتفاق النووي، إذ اتفقت على بناء ثلاثة مصانع للبتروكيماويات، باستثمارات نحو ملياري دولار.
عمومًا لا شك أن توتال على مدار العقود الأخيرة، كانت أحد أهمّ المفاتيح السياسية التي تمكنت من خلالها فرنسا بسط بعض من نفوذها في الخليج بشكل خاص، إذ إن الخليج ظل لأعوام منطقة لا تنشط بها الدبلوماسية الفرنسية، لكن مع استثمارات توتال، بات هذا الأمر من الماضي، وهو ما قد يبرّر موقف فرنسا من الأزمة الخليجيّة.
ومن ناحية أخرى، لدى توتال جولات كثيرة في اليمن لا تخلو من شبهات الفساد والمصالح السياسية، إذ ظلّت الشركة باليمن أكثر من 29 عامًا، واتّهم البعض الشركة بالعمل مع الحوثيين في محافظة مأرب للمحافظة على تواجدها في البلاد، مستغلة في ذلك وساطة إيرانية.
على الجانب الآخر حاولت فرنسا في أكثر من مناسبة العودة إلى المشهد الليبي منذ قدوم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من خلال محاولة للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة، إذ تسعى لتوسيع نفوذها في البلاد الذي يعتبر استراتيجيًّا بالنسبة لها، خاصة بعد أن فازت في عام 2010 من خلال شركة «توتال»، بعقد لاستثمار الغاز بحوض «نالوت» غربي البلاد، والقريب من «مليتا»، قبل أن تعود ليبيا وتلغي العقد مع الشركة الفرنسية بعد جدل قانوني. لكن رغبة البلاد في عودة توتال واسترجاع حوض «نالوت»، دفعتها لدعم حفتر عسكريًا.